تحية للثورة السودانية ولقيادتها الحكيمة كنموذج للحراك السلمي

نشر في 02-09-2019
آخر تحديث 02-09-2019 | 00:07
كل ما تحقق في السودان من نتائج يدل بلا شك على القيادة الحكيمة والرشيدة لقوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة منذ بدايتها حتى بر الأمان، والتي طرحت منذ البداية شعاراً واضحاً لا مواربة فيه أو محاباة لأطراف على حساب أطراف أخرى، والتزمت فيه حتى النهاية، وهو المطالبة بـ«مجتمع مدني ديمقراطي».
 يوسف ناصر الشايجي هذه الثورة التي أصبحت نموذجاً وقدوة يحتذى بها في الحراك السلمي للثورات، ليس على المستوى العربي فقط بل العالم، فرغم القمع الشديد الذي تعرضت له منذ البداية على أيدي السلطة مرات عديدة، وفي مراحل متعددة في عهد البشير والمجلس العسكري من بعده وعلى مدى أكثر من سبعة أشهر، قدمت خلالها العشرات من الشهداء حتى وقت قريب قبل الاتفاق النهائي بين الثوار والمجلس العسكري.

وعلى الرغم من المواجهات العنيفة مع قوات الأمن فإنه لم يدفعها ذلك لأن تخدش سلميتها بالرد عليها بأعمال الشغب والتكسير كما يحصل في الكثير من التظاهرات حتى للأقل سقفاً منها في المطالب، ولم تفلح معها الاستفزازات والمماطلة بدفعها للتمرد أو الانشقاقات داخل صفوفها، ولم ينفع معها حظر الطوارئ الذي فرضه البشير لإيقاف تظاهراتها، ولا حتى دخول شهر رمضان خفف من زخمها، بل صعدت من احتجاجاتها السلمية بكل أشكالها من تجمعات واعتصامات أو مسيرات وتظاهرات أو حتى عصيان مدني، وتنقلت لأكثر من موقع ومكان حسب الظروف والمتطلبات القائمة، مرددة شعاراً واحداً "سلام-عدالة-حرية" حتى أثمر كل ذلك عن سقوط الرئيس عمر البشير، ومن بعده "عوض بن عوف" وزير الداخلية ورئيس المجلس العسكري الأول.

فانتقلت بعد ذلك للدخول في مرحلة التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي الجديد برئاسة الفريق عبدالفتاح برهان، المقبول إلى حد ما شعبياً، وقد شهدت هذه المرحلة كثيراً من الشد والجذب بين الطرفين، فلم تضعف أو تهن في مطالبها الشعبية أو تتنازل عنها، فكانت قيادة الثورة قوى "الحرية والتغيير" تسير في خطين متوازيين: الإصرار والقوة والإرادة بالمطالب المشروعة طوال هذه المراحل، مقابل السلمية والعقلانية بالتعبير عن هذه المطالب والمرونة الإيجابية في التفاوض وتقدير الأبعاد الحقيقية لكل مرحلة، حتى تحققت لها أهدافها في النهاية.

وبدأت تضع قدماً في طريق بناء مستقبل ديمقراطي حقيقي للسودان يعوضها ما فاتها إن شاء الله، لذلك هي نموذج من حيث الفترة الزمنية للحراك السلمي اليومي (٧ أشهر) مقارنة بـ٢٨ يوماً و١٨ يوماً لثورتي بوعزيزي في تونس و٢٥ يناير في مصر على التوالي، ومن حيث النتائج التي تحققت لها والتي لم تتنازل عن أي منها، وكذلك من حيث دقة رسم خريطة طريق مناسبة للفترة الانتقالية المقبلة، والتروي في السير فيها وعدم الاستعجال وحرق المراحل، فـ"٣٩ شهراً" مدة الفترة الانتقالية بمجالسها وهيئاتها هي بالكاد تكفي لوضع أسس متينة وراسخة لبناء مؤسسات المجتمع المدني الديمقراطي، قبل أن يشرعوا في ممارسة الانتخابات الشعبية لاختيار رئيس الدولة وبرلمانها.

وفي هذا الجانب واضح أنها استفادت من مجريات ثورتي تونس ومصر وتجنباً من الوقوع وتكرار الأخطاء نفسها التي أدت إلى بعض أشكال الانتكاسات التي تعرضت لها، ومن حيث هذا الجانب وأهميته يجب التوقف قليلاً لاستيضاح بعض الأمور: فمن تابع وشاهد ثورة ٢٥ يناير منذ بداياتها في مصر شاهد الشباب الذين كان لهم شرف قيادتها في الأيام الأولى، وكانوا في صدر المشهد، فوجئ باختفائهم عن مشهد الانتخابات الأولى لرئيس الجمهورية (مايو ٢٠١٢) وخاصة في المرحلة الثانية والأخيرة منها بإعادة الانتخابات بين المرشحين الحاصلين على أكبر عدد من أصوات المرحلة الأولى، والتي انحصرت بين المرشحين محمد مرسي (رحمه الله) مرشح حزب الإخوان المسلمين وأحمد شفيق مرشح الحزب الوطني الحاكم خلال فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك، والتي أتت في نهايتها بمرشح الإخوان رئيساً لمصر، فصدم من هذه النتيجة التي هي في حقيقتها تعني أنه لم يتغير شيء في خريطة القوى أو الأحزاب السياسية الرئيسة قبل الثورة عما بعدها، حيث تقاسم الحزبان (الوطني والإخوان) في آخر انتخابات برلمانية قبل الثورة سنة ٢٠٠٥ الفوز بالمقاعد البرلمانية مع اختلاف تبادل المراكز، فقد حل "الوطني" في المركز الأول وجاء الإخوان في المركز الثاني بـ٨٨ مقعداً، مما أثار سؤالاً مهماً لدى شباب الثورة وهو: ماذا استفادوا من الثورة؟ وهل هذا المشهد والنتيجة هما ما كانوا يطمحون لتحقيقهما عند قيامهم بالثورة؟ أم كانوا يسعون لتغييرهما؟ أم أن هناك خطاً كبيراً وقعت فيه الثورة؟

المراقب للمشهد السياسي يري أن هناك خطأ جوهرياً وقع فيه القائمون على الثورة، وهو قصر الفترة الانتقالية (١٥ شهرا) والاستعجال في إجراء الانتخابات لم يعطيا الفرصة الكافية من الوقت لظهور قوى سياسية جديدة منافسة للقوى التقليدية، فكان ذلك في مصلحة الحزبين الوطني والإخوان للاحتفاظ بقواعدهما، حيث لم يجد جديد يمكن أن يؤثر في التوجه العام للناخبين، وهذا بالتحديد ما أدركته قيادة الثورة السودانية الواعية الممثلة بقوى (الحرية والتغيير) وعملت على تجنبه، فهي تدرك أنها كقيادة جديدة قد تكون معروفة على مستوى النقابات وجمعيات النفع العام، حيث تضم جبهتها الوطنية (تجمع المهنيين).

أما على المستوى السياسي فقد لا تكون معروفة بالقدر الكافي لذلك قامت بالمطالبة بإطالة الفترة الانتقالية لمدة ٤ سنوات يكون في نهايتها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في الوقت الذي طالب فيه المجلس العسكري بسنتين فتوافقا على (٣٩ شهرا) المقررة في الاتفاق.

كل تلك النتائج تدل بلا شك على القيادة الحكيمة والرشيدة لقوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة منذ بدايتها حتى بر الأمان، والتي طرحت منذ البداية شعاراً واضحاً دون مواربة فيه أو محاباة لأطراف على حساب أطراف أخرى، والتزمت فيه حتى النهاية، وهو المطالبة بـ"مجتمع مدني ديمقراطي".

رحم الله شهداء الثورة، وتحية لجميع مناضليها وقيادتها قوى (الحرية والتغيير)، وهنيئاً للشعب السوداني الشقيق بنجاح ثورته متمنين له كل تقدم وازدهار.

* بالمناسبة مازلت أذكر حديث "د.أحمد الخطيب"، الله يديم عليه موفور الصحة والعافية سنة ٢٠١٢ في أوج الحراك المحلي، حيث كان مجتمعاً في مبنى (مجلة الطليعة) مع مجموعة من شباب الحراك كانوا في زيارته بحضور اثنين من قيادتهم من النواب، وكنت من بين الحضور، فكان د.الخطيب يوصي الشباب ويشدد عليهم بالتمسك بالسلمية والحراك السلمي، حتى لو تعرضوا لقمع من قوات الأمن، لأنه بتفسيره أن الناس تتعاطف مع الحراك السلمي لأنه حق لأصحابه وضعيف بطبيعته المسالمة في مقابل قوات أمنية مدججة بكل ما لديها من أدوات قمع، فإذا انحرف الحراك عن سلميته خسر مؤيديه والمتعاطفين معه.

حكمة من رجل حكيم.

رغم المواجهات العنيفة مع قوات الأمن لم يدفع ذلك الثورة لأن تخدش سلميتها بالرد عليها بأعمال الشغب والتكسير

ثورة السودان استفادت من مجريات ثورتي تونس ومصر وتجنبت الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى بعض أشكال الانتكاسات
back to top