«مفتي فلسطين والقدس»... والتعاون مع هتلر

نشر في 29-08-2019
آخر تحديث 29-08-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر كانت نتيجة الحرب العالمية الأولى وهزيمتها المريرة وما أعقب ذلك من إذلال في اتفاقية فرساي مؤلمة لألمانيا التي كانت قد خسرت الكثير من المال والعتاد والجند، وكانت قد هزمت فرنسا قبل ذلك عام 1870، فإذا بفرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة تهزمها وتفرض عليها تعويضات مالية ضخمة وقيوداً تمنعها من إعادة التسليح "وتسلب" منها بعض الأراضي التي كانت قد "استردتها".

وراح الكثير من المستائين، وبخاصة غلاة الوطنيين والقوميين، يهاجمون "المؤامرة الدولية" ضد ألمانيا والتي استخدمت في تدمير ألمانيا وطعنها من الخلف الشيوعيين واليهود من داخل ألمانيا!

كانت هذه الحرب بداية دخول هتلر الجيش والحياة العسكرية كمجند، وكأغلب الألمان والكثير من الشعوب المهزومة في الحروب، لم يقف "هتلر" عند الأسباب الحقيقية للهزيمة، وترأس المتحمسين للتشهير بنظرية المؤامرة الخبيثة "والمخطط السري لتحطيم ألمانيا" و"تلويث نقاء شعبها" وغير ذلك. كما أيد الدعوة إلى توسيع ألمانيا والسيطرة على الدول المجاورة التي تسكنها الشعوب الأقل مكانة في نظره، كالفرنسيين والبولنديين والروس وعموم الشعوب السلافية التي أذاقها الويل فيما بعد خلال حروبه العدوانية.

وخص هتلر اليهود في كتابه "كفاحي" وفي سياساته العملية لاحقاً عندما استولى على دفة الحكم، بخطة محكمة للاضطهاد والمطاردة والتكديس في معسكرات الاعتقال والإبادة.

لقيت السياسات النازية أصداء إيجابية بالغة القوة في البلدان العربية، وكذلك في تركيا وإيران، بسبب الصراع العربي مع السياسات الاستعمارية والهجرة اليهودية، ولعدم وجود صراع بين دول المنطقة وألمانيا، بل كانت الدولة العثمانية نفسها كما ذكرنا قد استعانت بها لتطوير قدراتها العسكرية.

وكانت ألمانيا في وحدتها القومية التي تحققت من اتحاد أو توحيد عدة ممالك وولايات أبرزها "بروسيا" موضع تقدير التيار القومي العربي، الذي كان أبرز مفكريه، وبخاصة "ساطع الحصري"، من أشد المتأثرين بالفكر والتجربة الألمانية الوحدوية، وظلت الدولة الألمانية هي النموذج السائد في أذهان الساسة والمثقفين العرب، لا النموذج الإنكليزي أو الفرنسي مثلا.

برزت بين الشخصيات العربية السياسية في الثلاثينيات 1930 وما بعدها، شخصية مفتي فلسطين، الذي أدى دوراً معروفا في التعاون مع هتلر وموسوليني والنظام النازي، وأدى الدور الأبرز في هذا المجال، وسنتحدث عنه في عدة مقالات قادمة.

برز الحاج محمد أمين الحسيني (1896-1974) مفتي القدس والديار الفلسطينية كأشهر الشخصيات في مجال العلاقات العربية مع ألمانيا النازية، وكان الحاج أمين قد درس لبعض الوقت في الأزهر، وكذلك على يد الشيخ رشيد رضا. تقول عنه "الموسوعة السياسية"، د. عبدالوهاب الكيالي، 1990 إنه "عارض سياسة الوطن القومي اليهودي التي كانت أساس السياسة البريطانية بفلسطين، إلا أنه- أي المفتي الحسيني- لم يخل من عصبية عائلية ورغبة في الاستئثار السياسي".

وتقول "الموسوعة العربية الميسرة" بأنه "زعيم سياسي فلسطيني، عين مفتيا لبيت المقدس 1921، عارض إقامة دولة يهودية في فلسطين، قبض عليه 1937 لاتهامه بالتحريض على الجهاد ضد اليهود، فذهب إلى لبنان ثم إلى العراق قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. اشترك في ثورة "رشيد عالي الكيلاني" 1941 ضد الحكم البريطاني- في العراق- وبعد فشل ثورة الكيلاني هرب إلى إيران وإيطاليا، ثم رحل إلى برلين حيث أخذ يذيع منها الأحاديث لإذكاء همة العرب".

وبعد انتهاء الحرب العالمية وهزيمة ألمانيا ودول المحور تكمل الموسوعة عن مصير المفتي: "وجد في مصر ملاذاً 1946، ثم غادرها واتخذ من السعودية مقاماً، ودُفن في بيروت".

تبلورت الحركة الوطنية العربية في فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعقدت عدة مؤتمرات دعت إليها الجمعيات الإسلامية- المسيحية التي تشكلت في المدن الكبرى في البلاد، للتصدي للحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني، والتأكيد على اعتبار فلسطين جزءاً من سورية العربية، وعلى تحريرها من كل أنواع النفوذ والحماية الأجنبيين.

ويقول المؤرخ الأردني د. علي محافظة "شهد مطلع الثلاثينيات من هذا القرن- أي العشرين- قيام جمعيات الشباب التي تمردت على القيادة السياسية التقليدية، وكان أولها "جمعية الشباب العرب" التي أدانت قيادة الأعيان واتهمتها بالتخاذل والعجز عن إنقاذ عرب وادي الحوارث والتنازل عن جزء من أرض الوطن للعدو الصهيوني".

(العلاقات الألمانية- الفلسطينية 1841-1945، د. علي محافظة، بيروت 1981، ص228)

ويضيف المؤرخ عن تأثير صعود النازية في ألمانيا على العالم العربي فيقول: "في هذه الفترة التي بدأت تأخذ الحركة الوطنية العربية في فلسطين اتجاها متصلبا في مقاومة الانتداب البريطاني والنشاط الصهيوني في البلاد، وشرعت العناصر العربية الشابة في التحرك لأخذ زمام القيادة من اللجنة التنفيذية العربية، حدثت تطورات سياسية مهمة في ألمانيا، إذ وصل حزب العمال الوطني الاشتراكي N.S.D.A.P إلى السلطة في 30 كانون الثاني عام 1933. وأثار وصول هذه الحزب بزعامة أدولف هتلر إلى الحكم في ألمانيا اهتمام الحركات السياسية في المشرق العربي، فقد رأت في القوة الألمانية الجديدة حلفا محتملا يمكن الاعتماد عليه في نضالها الوطني من أجل الحرية والاستقلال والوحدة، ورأى بعضها في الأنموذج الألماني الجديد مثلا يحتذى، وتشكلت منظمات شبه عسكرية من الشباب في مدن الشرق العربي، مثل فرق القمصان الحديدية والحرس الوطني في دمشق، والكشافة في حلب، والشباب العربي في حمص، والشباب الوطني في حماة، والنجادة والوحدات اللبنانية والكتائب في لبنان، والفتوة والجوالة في العراق، والحزب القومي السوري في لبنان وسورية وفلسطين. وتألفت في فلسطين فرق كشفية ونواد أدبية في المدارس التابعة للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وبعض المعاهد الوطنية لغرض تنظيم الشباب وتهيئته وطنيا.

فتشكلت منظمة "الجوال المسلم" التي ضمت في صفوفها ما يزيد على ألف شاب، وكانت المنظمات النازية مثالا يحتذى لدى منظمات الشبيبة العربية في فلسطين، ففي الاجتماع الذي عقد في القدس في 11 شباط 1936 ألقى "أيوب مسلم" خطابا أشار فيه إلى دور منظمة الشباب الهتلرية في وصول هتلر إلى الحكم، وفي إكراه فرنسا على الانسحاب من المناطق الصناعية الألمانية". (ص 229)

وبرزت في مصر ضمن حركة الإخوان المسلمين فرق الجوالة والكشافة التي كانت تشرف كذلك على تنظيم الاجتماعات الشعبية والاجتماعية الخاصة قبل 1948، بما في ذلك حفلات تتويج الملك فاروق، وكذلك الخدمات العامة والطوارئ مثل الفيضانات وانتشار الأوبئة.

(الإخوان المسلمون- د. ريتشارد ميتشل، 1979، ص344-345)

تابع العرب باهتمام الصراع الألماني- الفرنسي- الإنكليزي، وحاول بعضهم الاستفادة منها في القضية الفلسطينية. ويقول د. محافظة: "قبل أن يصل الحزب النازي إلى السلطة بخمس سنوات قامت مجموعة من الطلبة العرب في ألمانيا بمقابلة أدولف هتلر في ميونخ واقترحت عليه إنشاء رابطة للشعوب المضهدة لمقاومة الدول الاستعمارية، وبخاصة إنكلترا وفرنسا، وكان القصد من هذه المحاولة كسب المساندة الألمانية في نضال العرب القومي من أجل تحرير بلادهم من الهيمنة الأنلكو- فرنسية. غير أن هذا الاقتراح لم يلق استجابة لدى الزعيم النازي، فقد زعم أن يديه مغلولتان وأنه عاجز عن تلبية هذا المطلب، والواقع أن رفض هتلر لمطالب الطلبة العرب يعود إلى نظرته العرقية نحو العرب وإلى كون المقترحات العربية لا تتفق والسياسة الواقعية Real Politik التي تبناها الحزب نحو بريطانيا وفرنسا". (ص231)

وبينما كانت ثورة فلسطين مشتعلة عام 1936، كان هتلر يبذل كل جهده لكسب ود بريطانيا وسكوتها عن تنفيذ مخططاته في أوروبا، "وكان يعتقد أن تقديم أي عون مادي أو معنوي لعرب فلسطين سوف يؤدي إلى توتر العلاقات الألمانية- البريطانية" ولم يكن هذا بالطبع الموقف المعلن!

وأصدرت وزارة الخارجية الألمانية تعميماً الى بعض سفاراتها يحدد معالم سياستها الجديدة، وأكد التعميم أنه "ليس في مصلحة ألمانيا قيام دولة يهودية أو كيان سياسي يهودي في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، مادامت أية دولة في فلسطين عاجزة عن استيعاب يهود العالم، ولكنها ستقيم، أي الدولة اليهودية، مركز قوة جديداً لليهودية العالمية في ظل القانون الدولي".

وأضاف التعميم "أن مصلحة ألمانيا تقتضي جعل اليهود متفرقين، ولهذا فإن لألمانيا مصلحة في تقوية العالم العربي، وذلك لموازنة احتمال ازدياد سطوة اليهودية العالمية". وهو ما يؤكد تذبذب وغموض الموقف النازي من المسألة.

وأضيف إلى التعميم الموجه إلى الوزير الألماني المفوض في بغداد: "ينبغي التعبير بشكل أوضح من ذي قبل عن تفهم ألمانيا لأماني العرب القومية، ولكن دون الإدلاء بأية وعود محددة".

وعن مساعي الحاج أمين الحسيني، يقول د. محافظة، إن الخارجية الألمانية درست مطالبه، ولكن مذكرة داخلية في الوزارة مقدمة إلى سكرتير الدولة، أشارت إلى "تناقض المواقف العربية من التقسيم، أكدت ألا وجود للعالم الإسلامي كقوة سياسية ضاغطة، وأن القوة الدولية الحقيقية هي قوة اليهود، وبناء على هذه المذكرة جاء الرد على مطالب المفتي سلبياً وموجزاً جداً".

في الأراضي الفلسطينية، تعرض "الحاج أمين الحسيني" لملاحقة السلطات البريطانية، فاختبأ في المسجد الأقصى وبقي مختبئا حوالي أربعة أشهر تمكن بعدها من الهرب، واللجوء إلى لبنان، ومن هناك أرسل إلى برلين مع أحد الأشخاص مشروعاً للتعاون الإعلامي مع ألمانيا، سنعرض بعض بنوده في المقال القادم.

back to top