تشريح الركود القادم

نشر في 25-08-2019
آخر تحديث 25-08-2019 | 00:00
هناك فرق مهم بين الأزمة المالية العالمية لعام 2008 وصدمات العرض السلبية التي قد تضرب الاقتصاد العالمي اليوم، ولأن الأولى كانت في الغالب صدمة سلبية كبيرة في إجمالي الطلب أدت إلى تراجع النمو والتضخم، فقد قوبلت بحوافز نقدية ومالية، لكن هذه المرة سيواجه العالم صدمات سلبية مستمرة في العرض تتطلب نوعا مختلفا جدا من استجابة السياسة على المدى المتوسط.
 بروجيكت سنديكيت هناك ثلاث صدمات سلبية في الإمدادات قد تؤدي إلى ركود عالمي بحلول عام 2020، وتعكس جميعها عوامل سياسية تؤثر على العلاقات الدولية، اثنتان منها تشمل الصين، والولايات المتحدة في مقدمة كل منهما. علاوة على ذلك، فإن أيا منها غير قابل للأدوات التقليدية لسياسة الاقتصاد الكلي المعاكسة للدورات الاقتصادية.

تنبع أول صدمة محتملة من حرب التجارة والعملات الصينية الأميركية، التي تصاعدت في وقت سابق من هذا الشهر عندما هددت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتعريفة إضافية على الصادرات الصينية، ووصفت الصين رسمياً بأنها مناورة للعملات، والثاني يتعلق بالحرب الباردة البطيئة بين الولايات المتحدة والصين بشأن التكنولوجيا، وفي منافسة لها جميع السمات المميزة لـ»مصيدة خوف القوة العظمى من قوة صاعدة، تتنافس الصين وأميركا من أجل الهيمنة على صناعات المستقبل: الذكاء الاصطناعي والروبوتات وجي 5 وما إلى ذلك، وضعت الولايات المتحدة شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي على «قائمة كيانات» محفوظة للشركات الأجنبية التي يُعتقد أنها تشكل تهديدًا للأمن القومي. على الرغم من حصول هواوي على إعفاءات مؤقتة تسمح لها بالاستمرار في استخدام المكونات الأميركية، أعلنت إدارة ترامب هذا الأسبوع أنها ستضيف 46 شركة تابعة لـ»هواوي» إضافية إلى القائمة.

الخطر الرئيس الثالث يتعلق بإمدادات النفط، فعلى الرغم من أن أسعار النفط انخفضت في الأسابيع الأخيرة، وأن الركود الناجم عن حرب التجارة والعملة والحرب التكنولوجية من شأنه أن يخفض الطلب على الطاقة ويخفض الأسعار، فإن مواجهة أميركا مع إيران قد يكون لها تأثير معاكس، فإذا تصاعد هذا النزاع إلى صراع عسكري، فقد ترتفع أسعار النفط العالمية وتسبب الركود، كما حدث خلال صدمات الشرق الأوسط السابقة في الأعوام 1973 و1979 و1990.

كل هذه الصدمات المحتملة الثلاث سيكون لها تأثير تضخمي، حيث ترتفع أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، والمدخلات الوسيطة، والمكونات التكنولوجية، والطاقة، مع تقليل الإنتاج عن طريق تعطيل سلاسل التوريد العالمية. والأسوأ من ذلك أن الصراع الصيني الأميركي يؤجج بالفعل عملية أوسع نطاقا لتخليص العولمة، لأن البلدان والشركات لم تعد قادرة على الاعتماد على الاستقرار الطويل الأجل لسلاسل القيمة المتكاملة، ونظرا لأن التجارة في السلع والخدمات ورأس المال والعمالة والمعلومات والبيانات والتكنولوجيا أصبحت متقلبة بشكل متزايد، سترتفع تكاليف الإنتاج العالمية في جميع الصناعات.

علاوة على ذلك فإن حرب التجارة والعملات والمنافسة على التكنولوجيا سيؤثر بعضهاعلى بعض. ضع في اعتبارك حالة هواوي، والتي تعد حاليا رائدة عالميا في مجال معدات جي 5 ستصبح هذه التقنية قريبا الشكل القياسي للاتصال لمعظم الهياكل الأساسية المدنية والعسكرية، ناهيك عن السلع الاستهلاكية الأساسية المتصلة عبر إنترنت الأشياء الناشئة. يعني وجود شريحة جي 5 أن أي شيء من مسخنة خبز كهربائية إلى آلة صانع القهوة يمكن أن يصبح جهاز استماع. وهذا يعني أنه إذا تم اعتبار هواوي على نطاق واسع تهديدا للأمن القومي، فإن الآلاف من صادرات السلع الاستهلاكية الصينية ستصبح أجهزة استماع.

من السهل أن نتخيل كيف يمكن أن يؤدي وضع اليوم إلى انهيار كامل لنظام التجارة العالمي المفتوح، والسؤال إذاً هو ما إذا كان صانعو السياسة النقدية والمالية مستعدين لصدمة العرض السلبية المستمرة أو الدائمة.

بعد الصدمات الهائلة للتضخم في السبعينيات، استجاب صناع السياسة النقدية بتشديد السياسة النقدية، اليوم، ومع ذلك، فإن البنوك المركزية الكبرى مثل الاحتياطي الفدرالي الأميركي تسعى بالفعل إلى تخفيف السياسة النقدية، لأن توقعات التضخم لا تزال منخفضة، وأي ضغوط تضخمية من صدمة نفطية ستنظر إليها البنوك المركزية على أنها مجرد تأثير على مستوى الأسعار، لا كزيادة مستمرة في التضخم.

بمرور الوقت، تميل صدمات العرض السلبية أيضا إلى أن تصبح صدمات سلبية في الطلب تقلل من النمو والتضخم، من خلال خفض الاستهلاك والنفقات الرأسمالية، وفي الواقع، في ظل الظروف الحالية، فإن الإنفاق الرأسمالي للشركات في الولايات المتحدة والعالم يعاني الاكتئاب الشديد، بسبب عدم اليقين بشأن احتمال وشدة واستمرار الصدمات الثلاث المحتملة.

في الواقع، مع كبح جماح الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا والصين وأجزاء أخرى من آسيا في النفقات الرأسمالية يوجد قطاع التكنولوجيا والصناعة التحويلية في حالة ركود بالفعل، والسبب الوحيد وراء عدم ترجمة ذلك إلى ركود عالمي هو أن الاستهلاك الخاص ظل قوياً، فإذا ارتفع سعر السلع المستوردة بشكل أكبر نتيجة لأي من هذه الصدمات السلبية في العرض، فإن النمو الحقيقي لدخل الأسر (المعدل حسب التضخم) سيتأثر، وكذلك ثقة المستهلك، مما سيدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود.

بالنظر إلى احتمال حدوث صدمة الطلب الكلي السلبي على المدى القصير، فإن البنوك المركزية محقة في تخفيف أسعار الفائدة، لكن يجب على صانعي السياسة المالية إعداد استجابة مماثلة قصيرة الأجل، ومن شأن الانخفاض الحاد في النمو والطلب الكلي أن يستدعي التخفيف من حدة التقلبات المالية الدورية لمنع الركود من أن يتفاقم أكثر من اللازم.

على المدى المتوسط، على الرغم من ذلك، فإن الاستجابة المثلى لن تكون لاستيعاب صدمات العرض السلبية، ولكن للتكيف معها دون مزيد من التخفيف، فبعد كل شيء، الصدمات السلبية للإمدادات من حرب التجارة والتكنولوجيا ستكون دائمة إلى حد ما، وكذلك تخفيض النمو المحتمل. الأمر نفسه ينطبق على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: ترك الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تحمل المملكة المتحدة بشكل دائم صدمة العرض السلبية، وبالتالي انخفاض النمو المحتمل بشكل دائم.

لا يمكن عكس هذه الصدمات من خلال صنع السياسة النقدية أو المالية، فعلى الرغم من إمكانية إدارتها على المدى القصير، فإن محاولات استيعابها بشكل دائم ستؤدي في النهاية إلى ارتفاع كل من توقعات التضخم وارتفاع التضخم بشكل أكبر من أهداف البنوك المركزية. في سبعينيات القرن الماضي، استوعبت البنوك المركزية صدمتين نفطيتين كبيرتين، وكانت النتيجة ارتفاع التضخم والتوقعات باستمرار التضخم، والعجز المالي غير المستدام، وتراكم الديون العامة.

أخيرا، هناك فرق مهم بين الأزمة المالية العالمية لعام 2008 وصدمات العرض السلبية التي قد تضرب الاقتصاد العالمي اليوم، ولأن الأولى كانت في الغالب صدمة سلبية كبيرة في إجمالي الطلب أدت إلى تراجع النمو والتضخم، فقد قوبلت بحوافز نقدية ومالية، لكن هذه المرة، سيواجه العالم صدمات سلبية مستمرة في العرض تتطلب نوعا مختلفا جدا من استجابة السياسة على المدى المتوسط، ومحاولة عكس الضرر من خلال التحفيز النقدي والمالي الذي لا ينتهي لن يكون خيارا معقولاً.

* نورييل روبيني

* الرئيس التنفيذي لشركة روبيني ماكرو أسوشيتس وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top