ما تعتقده روسيا بشأن تعددية الأطراف

نشر في 22-08-2019
آخر تحديث 22-08-2019 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت عندما يسمع الروس الأناشيد بالترتيب "القائم على القواعد"، عادة ما يَردُّون بالسؤال عمن يكتب هذه القواعد، وفي الواقع، يلخص هذا السؤال نفسه الآن موقف الكرملين من تعددية الأطراف التي يدعمها الغرب.

وكما ترى روسيا، فإن الولايات المتحدة لن تتردد في التصرف من جانب واحد عندما تحتاج إلى ذلك، وهذا بالضبط هو المعيار المزدوج الذي أدى إلى تراجع القواعد العالمية، وكلما ظهر وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، على الساحة الدولية، فإنه يروي بلا كلل انتهاكات أميركا المزعومة للقانون الدولي، بما في ذلك قصف يوغوسلافيا عام 1999، وغزو العراق عام 2003، والغارات الجوية التي شنتها عام 2011، والتي ساعدت في إسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا.

والمؤكد أنه عندما تريد الولايات المتحدة ذريعة قانونية لتصرفاتها، فإنها ستلجأ إلى الهيئات المتعددة الأطراف مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكن إذا واجهت خططها هناك مقاومة من روسيا، أو أي عضو آخر في المجلس يتمتع بحق النقض (الفيتو)، فبإمكان أميركا دائما أن تتراجع عن هذا الخيار، وتلجأ إلى القوة الغاشمة وتعبئة حلفائها.

فلا عجب إذن أن ترى روسيا النقاشات حول النظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد إما منافقا، أو أسوأ من ذلك، مؤامرة معقدة لتقويض دور القانون الدولي كما هو مدون في ميثاق الأمم المتحدة، ومهما يكن الأمر، فإن الكرملين نفسه لم يعد يأخذ القانون الدولي في الاعتبار، عندما يعتقد أن المصالح القومية الروسية الحساسة في خطر.

وأبرز الأمثلة على هذه السياسة اعتراف روسيا الرسمي بمنطقتين انفصاليتين في جورجيا في عام 2008، واستيلاؤها على شبه جزيرة القرم في عام 2014. وفي نظر القيادة الروسية، كانت هذه الإجراءات تدابير "دفاعية". وكما أوضح لنا دبلوماسي روسي ذات مرة، فإن الكرملين قد رأى أنه إذا كان بإمكان الولايات المتحدة خرق القانون الدولي في جميع أنحاء العالم، فينبغي على روسيا "كسر الاحتكار الأميركي فيما يتعلق بخرق القانون الدولي"، على الأقل في الحالات التي تخاطر فيها بالمال، والموارد اللازمة لفرض إرادتها.

ومع ذلك، فإن روسيا لا تريد حقاً أن ترى النظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد يتراجع، إذ عندما يعبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون كبار آخرون عن رغبتهم في استعادة القانون الدولي، والدور المركزي للأمم المتحدة، فإنهم يعنون ما يقولون. والأمم المتحدة، في آخر المطاف، هي المنتدى المفضل لروسيا، وبصفة أن روسيا عضو دائم يتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن وأنها قوة عسكرية هائلة، فهي تمارس الكثير من النفوذ هناك.

والمشكلة، حسب تقدير الكرملين، هي أن نظام المؤسسات المتعددة الأطراف المتمركز حول الأمم المتحدة يمر الآن بأزمة نتجت عن الهيمنة الأميركية، ويرغب قادة روسيا في رؤية عالم يحترم فيه الجميع ميثاق الأمم المتحدة، خاصة الولايات المتحدة، ولكن إذا أخفق في ذلك، فإن روسيا تفضل أن تكون براغماتية بقوة عظمى تشق طريقها في النظام الدولي، وتنتزع النفوذ من جيرانها. وهذا، من وجهة نظر الكرملين، لا يختلف عمَّا تفعله الولايات المتحدة، والصين، والهند، وإيران بالفعل خارج حدودها.

ومع ذلك، فإن التعاون المتعدد الأطراف المتجدد عن طريق الأمم المتحدة، من شأنه أن يبرز قوة روسيا، ويسمح لها بنشر خبراتها الخاصة. لننظر في قضية عدم الانتشار النووي، إن روسيا تُعد، نظرا لأنها قوة نووية في حد ذاتها، أحد الأطراف الرئيسية في خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، وعن طريق العمل ضمن إطار الأمم المتحدة، تمكنت مجموعة (5+1) (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا)، من جلب إيران إلى طاولة المفاوضات عن طريق العقوبات، وبمجرد تحقيق ذلك، تمكنت من صياغة إطار قانوني قابل للتنفيذ، يستند إلى مراقبة مستقلة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي هي نفسها جزء من النظام المركزي للأمم المتحدة.

الآن وبعد أن تخلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطة العمل المشتركة، فمن غير الواضح ما إذا كانت روسيا، أو أي من الأطراف الأخرى الباقية، تستطيع إنقاذ الصفقة، ولكن حقيقة وجود اتفاق ينطوي على درس مهم يتمثل في أنه في القضايا التي تملك فيها روسيا مصلحة، وخبرة سياسية ودبلوماسية ذات صلة، يمكن أن تلعب دورا مهماً وبنّاءً.

وعلى نفس المنوال، في المجالات التي لا تملك فيها روسيا مصلحة مباشرة، ولا خبرة كبيرة لها فيها، فإنها لا تستثمر الكثير من الجهد في التعاون المتعدد الأطراف. ومن بين الأمثلة على ذلك، انضمام البلد البطيء المؤلم إلى منظمة التجارة العالمية، ولأن روسيا تصدر معظم السلع، فإن الدافع وراء قرارها بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، كان المكانة التي ستمنحها العضوية أكثر من الاعتبارات الاقتصادية الملموسة، ونتيجة لذلك، استغرق الأمر 19 عاما قبل أن تنضم روسيا فعليا إلى المنظمة (وهو ما فعلته في عام 2012).

ويتجلى مثال آخر في تغير المناخ، إذ مع أن روسيا طرف رسمي في المفاوضات والأطر الدولية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، فإنها بالتأكيد ليست في مقدمة النقاش حول المناخ، ومن وجهة نظر الكرملين، لا يشكل الاحتباس الحراري تهديدا مباشرا لروسيا، إذن فهو لا يثير قلقاً كبيراً.

وفي غياب عالم يحكمه فعلاً القانون الدولي، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، تعد صيغة روسيا المفضلة للتعددية شيئا يشبه "مؤتمر الأمم" في القرن التاسع عشر في أوروبا. وبموجب هذا النوع من الترتيب، يجب أن تلتقي بعض القوى العظمى المختارة من حين إلى آخر، لمناقشة القضايا العالمية، واتخاذ إجراءات جماعية عندما تتلاقى مصالحها، كما هو الحال في مكافحة الإرهاب، أو مكافحة القرصنة في القرن الإفريقي، وفي الوقت نفسه، ينبغي لهذه القوى الامتناع عن التدخل في شؤون بعضها، من أجل الحفاظ على مجالات نفوذها.

إن حقيقة عودة روسيا إلى زمن كانت فيه قوة عظمى عالمية لا ينبغي أن يكون مفاجأة، لكن الأمر الأقل وضوحا هو ما إذا كانت سياستها القائمة على المصلحة ستعود عليها بالفائدة على المدى الطويل أم لا؟

* ألكساندر غابويف وإيلينا تشيرنينكو

* يشغل غابويف منصب كبير الزملاء في مركز كارنيغي في موسكو. وتشغل إيلينا تشيرنينكو منصب نائبة محررة الشؤون الخارجية في دار كوميرسانت للنشر في موسكو.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top