حلف «الناتو» لم يخسر أهميته!

نشر في 02-08-2019
آخر تحديث 02-08-2019 | 00:02
جانب من قوات الحلف
جانب من قوات الحلف
نشأ حلف «الناتو» الأصلي بين الولايات المتحدة وكندا و10 دول أوروبية عام 1949 وعاد ليشمل 29 بلداً وبعد مصادقة الدول الأعضاء الراهنة من المتوقع أن تنضم جمهورية مقدونيا الشمالية باعتبارها العضو رقم 30 في الحلف.
هذا العام، تحتفل منظمة «حلف شمال الأطلسي» بعيدها السبعين، وفي عالمٍ تطغى عليه الكفاءة السياسية الدولية، يُعتبر هذا الشكل من التحالفات القديمة نادراً، فاستمرارية هذا الحلف تنجم عن جمعه بين المصلحة الوطنية التي تكون عابرة أحياناً، والقيم الوطنية التي يتمنى الكثيرون أن تدوم لوقتٍ أطول.

نشأ التحالف الأصلي بين الولايات المتحدة وكندا و10 دول أوروبية في عام 1949 وعاد ليشمل 29 بلداً، وبعد مصادقة جميع الدول الأعضاء الراهنة، من المتوقع أن تنضم جمهورية مقدونيا الشمالية باعتبارها العضو رقم 30 في حلف «الناتو».

لكن البعض، لا سيما الرئيس الأميركي، شككوا في قيمة الانتساب إلى هذا الحلف خدمةً للمصلحة الوطنية الأميركية اليوم، ورغم تأكيد البيت الأبيض على الالتزام الأميركي الصلب بحلف «الناتو»، فإن مجرّد التفكير بحصول شرخ بين أوروبا والولايات المتحدة يرضي رغبة روسيا القديمة في انهيار التحالف.

لا يُعتبر انشغال إدارة ترامب بتقاسم الأعباء مسألة جديدة بأي شكل، إذ لطالما عادت هذه المشكلة المزعجة إلى الواجهة بشكلٍ متقطع على مر تاريخ التحالف. خلال السبعينيات، كانت أوروبا تنفق حوالى 45% من الإنفاق الأميركي على الدفاع. ويذكر «مركز العلاقات العابرة للأطلسي» أن ثلاثة عوامل اجتمعت لمعالجة ذلك التفاوت، فقد بدأت موسكو تتخذ منحى عدائياً، وانشغلت الولايات المتحدة بصراعها القديم في فيتنام، وكانت أوروبا تنعم بفترة من الازدهار النسبي، وبحلول نهاية الحرب الباردة، كانت أوروبا تنفق 78% من مستوى الإنفاق الأميركي تقريباً.

يبدو الوضع الراهن مشابهاً بدرجة معينة، حيث زادت عدائية موسكو، وتشارك الولايات المتحدة في حرب قائمة منذ 17 سنة في أفغانستان (إلى جانب حلفائها في «الناتو»)، وتستفيد أوروبا من ازدهار نسبي، كذلك، بدأ الإنفاق الدفاعي الأوروبي يزيد. في هذا السياق، قال دانيال فرايد، مساعد وزير الخارجية الأميركية في الشؤون الأوروبية بين عامَي 2005 و2009: «يتعيّن على الولايات المتحدة أن تضغط بجميع الوسائل المتاحة لزيادة الإنفاق الدفاعي في الحلف، لكن دعونا اليوم، وكل يوم، نتذكر ونحترم تضحية الآخرين من أجلنا».

ما بعد الحرب الباردة

منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وحلفائه في «حلف وارسو»، جدّد «الناتو» نفسه بمعنى الكلمة، خاض هذا التحالف، الذي نشأ في الأصل لمواجهة السوفيات، تحديات ومهام جديدة، فأثبت أنه لا يزال أهم حليف للولايات المتحدة.

صُمّمت مهمة «الناتو» الراهنة في عام 2010، ولا يزال التحالف عبارة عن اتفاق دفاعي متبادل، ما يعني أن كل عضو فيه يلتزم بالدفاع عن الأطراف الأخرى ضد أي اعتداء، وحتى ضد «المخاطر الجديدة التي تهدد أمن مواطنينا».

كذلك، يُسلّط الحلف الضوء على أهمية التحكم في الصراعات، أي منع نشوئها والسيطرة عليها وتجديد الاستقرار بعد الصراع. يلتزم «الناتو» بالتعاون مع الشركاء الدوليين لتجريد العالم من الأسلحة النووية والسماح للديمقراطيات الأوروبية التي تتماشى مع معايير العضوية بالانضمام إلى الحلف.

واجه «الناتو» أحد أصعب الاختبارات بعد العصر السوفياتي غداة تفكك يوغوسلافيا، فتولى قيادة المساعي الرامية إلى إنهاء القتال وتجديد الاستقرار في البوسنة والهرسك، ثم اعتباراً من عام 1999، أدى الحلف دوراً مشابهاً في كوسوفو، كان إنهاء سفك الدماء من أهم الأولويات السياسية الأميركية خلال عهد كلينتون. صحيح أن الولايات المتحدة كانت تستطيع معالجة تلك الأزمات وحدها، لكن شركاءها في «الناتو» تعاونوا معها وتحملوا جزءاً من الأعباء.

بعد الاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، تم تفعيل المادة الخامسة من ميثاق «الناتو» للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ الحلف. تُلزِم تلك المادة كل عضو بالدفاع عن الأطراف الأخرى عند تعرّضها للهجوم، ومن وجهة نظر شركاء الولايات المتحدة في «الناتو»، كانت الاعتداءات على واشنطن ونيويورك مشابهة لأي اعتداء على روما أو برلين أو تورونتو أو أوسلو.

لكن لم يكن اللجوء إلى المادة الخامسة مجرّد تعبير مجازي عن التضامن، بل حارب حلفاء الأميركيين في «الناتو»، إلى جانب شركاء آخرين مثل أستراليا، مع الولايات المتحدة في أفغانستان، وقُتِل حينها أكثر من ألف جندي منهم.

قد لا يتفق الجميع على صوابية التدخل الأميركي في البوسنة أو كوسوفو أو أفغانستان، إلا أن تلك العمليات كانت جزءاً من أولويات الأمن القومي بنظر الحكومة الأميركية. في كل صراع منها، حمل شركاء الأميركيين في «الناتو» السلاح للمشاركة في عمليات تقودها الولايات المتحدة، وكان دعم الحلفاء كفيلاً بتخفيف أعبائها وتنفيذ أولوياتها الأمنية.

لكن للأسف، اتخذ المنطق الأصلي الذي نشأ حلف «الناتو» على أساسه منحىً جديداً وخبيثاً، إذ تلاشت التجربة الديمقراطية الروسية التي بدأت في أواخر الثمانينات بالكامل. ابتعدت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين عن الليبرالية والديمقراطية واتجهت نحو إقامة دولة أقل ما يُقال فيها إنها مبنية على الاستبداد ورأسمالية المحسوبيات والفساد. والأهم من ذلك هو أن بوتين تحرك بكل عدائية لاسترجاع السلطة والأراضي المفقودة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

سعت موسكو إلى تشجيع الحركات الانفصالية في عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة، في عام 2014، عززت روسيا تدخلها العسكري القائم منذ فترة طويلة في أوكرانيا من خلال ضم شبه جزيرة القرم. وفي أوروبا الوسطى والشرقية، نفذت روسيا سياسات عدائية تهدف إلى استرجاع نفوذها، واجهت البلدان في أنحاء المنطقة أنواعاً جديدة من التهديدات، فيما سعت موسكو إلى التلاعب بالمؤسسات الديمقراطية وتشويه سمعتها.

كذلك، حاولت موسكو إسكات النقاد وتعزيز نفوذها في الديمقراطيات القديمة، ففي عام 2006، اغتيل عميل الاستخبارات السابق ألكسندر ليتفينينكو في بريطانيا، كما رُصِدت اعتداءات إلكترونية في كندا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا، وبريطانيا وأماكن أخرى، وفي الولايات المتحدة، أطلقت روسيا حملة غير مسبوقة لتأجيج الانقسامات والتأثير على انتخابات 2016.

صحيح أن احتمال نشوء صراع عسكري وشيك بين روسيا والولايات المتحدة يبقى ضئيلاً، لكن روسيا ودولا أخرى تطرح تهديداً جدياً ومتغيراً على الولايات المتحدة وحلفائها، ويُعتبر حلف «الناتو» أول خط دفاعي أساسي.

يبقى «الناتو» تحالفاً عسكرياً في المقام الأول، لكنه منذ أيامه الأولى مخزون من القيم أيضاً، صحيح أنه فضّل تجاهل الأحداث أحياناً، لكن لطالما حرص على تعزيز الديمقراطية في الدول الأعضاء.

تنصّ المادة العاشرة من ميثاق «الناتو» على اعتبار أي دولة أوروبية أخرى قادرة على تبني مبادئ الحلف والمشاركة في الحفاظ على أمنه مرشّحة للانضمام إليه بالإجماع. انضمّت اليونان وتركيا عام 1952، مع أن البلدين شهدا فترات طويلة من الحكم العسكري، ورغم تنامي المخاوف من تلاشي الديمقراطية في بلدان مثل هنغاريا وتركيا اليوم، لا يزال البلدان عضوَين ناشطَين في الحلف.

لكن أصبح التزام «الناتو» بالقيم أكثر وضوحاً حين بدأت الدول الشيوعية السابقة تناور للانتساب إليه. يجب أن تثبت البلدان المرشّحة للانضمام إليه أنها مبنية على اقتصاد السوق ونظام ديمقراطي مستقر يرتكز على احترام حقوق الإنسان وحكم القانون، كذلك، على الدول الطامحة للانتساب إليه أن تعيش بسلام مع الدول المجاورة لها وتحلّ خلافاتها سلمياً، ويجب أن تسيطر السلطات المدنية والديمقراطية فيها على الجيش.

لا يزال «الناتو»، بعد مرور سبعين عاماً على نشوئه، عبارة عن شراكة حيوية ومورد قيّم للأمم المتحدة، فقد قدّم الدم والمال في أحدث صراعَين كبيرين في العراق وأفغانستان. كما تكيّف مع التهديدات الجديدة المشتقة من موسكو، ودعّم دفاعاته في منطقة البلطيق، وأقام شراكات مع دول متناحرة مع روسيا، على غرار أوكرانيا وجورجيا، ووفّر اتصالات وجهوداً تنسيقية مهمة للتصدي للحرب الإلكترونية المستمرة.

لا يخطئ منتقدو «الناتو» حين يدعون إلى زيادة الإنفاق الدفاعي من جانب مختلف الدول الأعضاء، فقد أطلق معظم الرؤساء الأميركيين هذه الدعوة ولطالما تجاوب حلفاؤهم في «الناتو» مع دعوتهم، لكن الولايات المتحدة، باعتبارها قوة عالمية، ستتابع تحمّل أكبر قدر من الأعباء.

لقد أثبتت المعطيات التاريخية ضرورة ألا نعتبر حلف «الناتو» سبباً لاستنزاف الموارد الأميركية، بل ميزة واضحة، إذ واجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها اضطرابات كثيرة وتباعداً في العلاقات بسبب مسائل سياسية متنوعة، لكن حتى في أقصى لحظات التوتر، لطالما اعترف القادة على جهتَي الأطلسي بأن الحلف يفيد جميع الأطراف.

باختصار، تحمّل حلف «الناتو» هذه المشاكل كلها لأنه خليط من القيم المشتركة، أبرزها الديمقراطية، والحرية، واقتصاد السوق، والتضامن، والاحترام المتبادل، ومهما يكن من شيء فإن الولايات المتحدة وشركاءها يتقاسمون مصلحة أساسية تقتضي الحفاظ على هذه الشراكة، لقد كان الحلف مفيداً لجميع الفرقاء على مر 70 سنة ولا يزال يفيدهم حتى هذا اليوم.

استمرارية «الناتو» تنجم من جمعه بين المصلحة الوطنية التي تكون عابرة أحياناً والقيم الوطنية التي يتمنى الكثيرون أن تدوم

قد لا يتفق الجميع على صوابية التدخل الأميركي في البوسنة أو كوسوفو أو أفغانستان لكن تلك العمليات كانت جزءاً من أولويات الأمن القومي بنظر الحكومة الأميركية
back to top