العملات المشفرة السرقة الكبرى

نشر في 24-07-2019
آخر تحديث 24-07-2019 | 00:00
خلق تداول العملات الرقمية المشفرة صناعة تتعامل في مليارات الدولارات، ولا تشمل أسواق البورصة فحسب، بل أيضاً المروجين الذين ينتحلون صفة صحافيين، والانتهازيين الذين يضخمون دفاترهم المالية للترويج لهذه "العملات القذرة"، وجماعات الضغط التي تسعى إلى الحصول على إعفاءات تنظيمية، ووراء كل هذا تقبع عصابة إجرامية ناشئة تتفوق على "المافيا".
 بروجيكت سنديكيت هناك سبب وجيه لابد أن يحمل كل دولة متحضرة في العالم على ضبط نظامها المالي بإحكام، فقد كانت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 ناجمة إلى حد كبير عن تقليص الضوابط التنظيمية المالية. يشكل المحتالون، والمجرمون، والنصابون حقيقة من حقائق الحياة، ومن غير الممكن أن يتسنى لأي نظام مالي أن يحقق الغرض منه على النحو اللائق ما لم يكن المستثمرون محميين من أمثال هؤلاء.

من هنا كانت أهمية الضوابط التنظيمية التي تقضي بتسجيل الأوراق المالية، وترخيص أنشطة الخدمات المالية، وضمان احتواء ضوابط رأس المال على تدابير "مكافحة غسل الأموال" وشروط "اعرف عميلك" (لمنع التهرب الضريبي وغير ذلك من التدفقات المالية غير المشروعة)، وضمان حرص مديري الأموال على خدمة مصالح عملائهم، ولأن هذه القوانين والضوابط التنظيمية تحمي المستثمرين والمجتمع، فإن تكاليف الامتثال المرتبطة بها معقولة وملائمة.

لكن الجهاز التنظيمي الحالي لا يشمل جميع الأنشطة المالية، فالآن يجري بشكل روتيني إطلاق عملات رقمية مشفرة وتداولها خارج نطاق الرقابة المالية، حيث يروج لتكاليف تجنب الامتثال على أنها مصدر للكفاءة، والنتيجة هي أن مملكة العملات الرقمية المشفرة أصبحت أشبه بنادي قمار غير خاضع للتنظيم والرقابة، حيث تتجاوز الأنشطة الإجرامية المنفلتة كل الحدود.

هذا ليس مجرد تخمين، فربما تكون بعض أكبر الجهات المصدرة للعملات الرقمية المشفرة متورطة علناً في أنشطة غير مشروعة ممنهجة، ولنتأمل هنا ما يسمى BitMEX، أو سوق البورصة غير المنظمة التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، والتي تتداول مشتقات العملات الرقمية المشفرة وتتخذ من جزيرة سيشيل مقرا لها لكنها نشيطة عالميا. كان رئيسها التنفيذي آرثر هايز يتباهى علنا بأن نموذج أعمال هذه السوق يضم بيع مشتقات عملات رقمية مشفرة برافعة مالية من 100 إلى واحد لـ"مقامرين منحلين" (أي مستثمري التجزئة الجاهلين).

للتوضيح، مع رافعة مالية من 100 إلى واحد، فإن أي تغير ولو بنسبة 1 في المئة في أسعار الأصول الأساسية قد يؤدي إلى إطلاق العنان لطلبات التغطية ومحو كل استثمارات أي مشارك. الأسوأ من ذلك أن سوق BitMEX تطبق رسوما عالية كلما اشترى المرء أو باع أدواته السامة، ثم تأخذ قضمة أخرى من التفاحة من خلال تحويل مدخرات العملاء إلى "صندوق تصفية" والذي من المحتمل أن يكون أكبر بعدة مرات مما هو ضروري لتجنب مخاطر الطرف الآخر، وليس من المستغرب أن تمثل عمليات التصفية في بعض الأحيان ما قد يصل إلى نصف إيرادات BitMEX، وفقا لتقديرات أحد الباحثين المستقلين.

كَشَف لي أشخاص من داخل BitMEX أن هذه البورصة تُستَخدَم يوميا أيضا لغسل الأموال على نطاق واسع من قِبَل إرهابيين ومجرمين من روسيا وإيران، وأماكن أخرى؛ ولا تفعل البورصة أي شيء لإيقاف هذه الممارسات، لأنها تستفيد من المعاملات. وكأن هذا لم يكن كافيا، فإن BitMEX تدير أيضا مكتبا للتداول الداخلي لتحقيق الربح (يفترض أن يكون هذا لغرض صنع السوق) والذي اتُّهِم بتداول أموال عملائه مسبقا. وقد أنكر هايز هذا الاتهام، ولكن لأن BitMEX غير خاضعة للتنظيم على الإطلاق، فلن نجد عمليات تدقيق مستقلة لحساباتها، وبالتالي لن نجد وسيلة لمعرفة ما يحدث حقا وراء الكواليس.

في كل الأحوال، نحن نعلم أن BitMEX تتحايل على الضوابط التنظيمية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وقاعدة "اعرف عميلك". ورغم زعمها أنها لا تخدم المستثمرين من الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة الخاضعين لمثل هذه القوانين، فإن طريقة "التحقق" من جنسية عملائها هي التحقق من عنوان بروتوكولات الإنترنت الخاص بهم (IP address)، والذي يمكن حجبه بسهولة باستخدام تطبيق VPN. ويشكل هذا الافتقار إلى العناية الواجبة انتهاكا وقحا لقوانين الأوراق المالية وضوابطها التنظيمية، وقد تحدى هايز علنا أي شخص أن يحاول مقاضاته في سيشيل غير الخاضعة للتنظيم، وهو يعلم أنه يعمل خارج نطاق القوانين والضوابط التنظيمية.

في وقت سابق من هذا الشهر، قمت بمناظرة هايز في تايبيه عاصمة تايوان متحديا إياه، لكنه دون علم مني، حصل على حقوق حصرية من منظمي المؤتمر لبث الفيديو الذي سجل الحدث، ورفض لمدة أسبوع بثه بالكامل، بل نشر بدلاً من ذلك مقتطفات منتقاة لخلق انطباع بأن أداءه كان طيبا، وأظن أن هذا سلوك معتاد بين أوغاد العملات الرقمية المشفرة، ولكن من عجيب المفارقات أن يصبح شخص يدعي أنه يمثل "المقاومة" ضد الرقابة أباً لكل المراقبين الآن بعد أن بات احتياله مكشوفا. وأخيرا، بعد فضحه علنا أمام أنصاره، تراجع ونشر الفيديو.

في نفس اليوم الذي شهد إقامة المناظرة بينننا، اقترحت هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة فرض حظر صريح على الاستثمارات العالية المخاطر في العملات الرقمية المشفرة. ومع ذلك، في غياب استجابة متضافرة جيدة التنسيق من قِبَل صناع السياسات، فسوف يستمر خداع مستثمري التجزئة الذين استسلموا لإغراء الدخول إلى عالم العملات الرقمية المشفرة. والتلاعب في الأسعار متفش في جميع تبادلات العملات المشرفة، نظرا لمخططات التلاعب في الأسعار، وتداول الأموال المغسولة، والخداع، والتداول المسبق، وغير ذلك من أشكال التلاعب. تشير إحدى الدراسات إلى أن ما يصل إلى 95 في المئة من كل المعاملات في عملة البتكوين وهمية، مما يشير إلى أن الاحتيال ليس الاستثناء بل القاعدة.

بطبيعة الحال، ليس من المستغرب أن تتحول سوق غير خاضعة للتنظيم إلى ساحة للمحتالين، والمجرمين، والنصابين، والدجالين، لقد خلق تداول العملات الرقمية المشفرة صناعة تتعامل في مليارات الدولارات، ولا تشمل أسواق البورصة فحسب، بل أيضا المروجين الذين ينتحلون صفة صحافيين، والانتهازيين الذين يضخمون دفاترهم المالية للترويج لهذه "العملات القذرة"، وجماعات الضغط التي تسعى إلى الحصول على إعفاءات تنظيمية، ووراء كل هذا تقبع عصابة إجرامية ناشئة تتفوق على المافيا. الآن حان الوقت لتدخل الولايات المتحدة وغيرها من هيئات فرض القانون، وحتى الآن، كان القائمون على التنظيم نائمين على عجلة القيادة بينما استفحل سرطان العملات الرقمية المشفرة. تؤكد إحدى الدراسات أن 80% من "الطروحات الأولية للعملات" في عام 2017 كانت احتيالية، وفي أقل تقدير، ينبغي التحقيق في أمر هايز وكل أمثاله الذين يديرون عصابات إجرامية مماثلة من ملاذات آمنة في الخارج، قبل أن يقع ملايين آخرون من صغار المستثمرين فريسة للخداع والخراب المالي. وحتى وزير المالية الأميركي ستيفن منوشين ــ وهو ليس من مشجعي التنظيم المالي ــ يوافق على أن العملات الرقمية المشفرة يجب ألا يُسمَح لها أبدا بأن "تصبح المعادل للحسابات ذات الأرقام السرية"، والتي ظلت فترة طويلة أشبه بمحمية يلوذ بها الإرهابيون، ورجال العصابات، وغير ذلك من المجرمين.

* نورييل روبيني

* الرئيس التنفيذي لمؤسسة روبيني ماكرو أسوشييتس، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلة شترين لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top