الذاكرة بين العمى والإبصار!

نشر في 18-07-2019
آخر تحديث 18-07-2019 | 00:05
 مسفر الدوسري الذكريات تلك اللحظات الهاربة من قبضة نار الزمن ومحرقة السنين، والفرقة الناجية من حقل الرماد، هي ما يتبقى من حنطة الأيام لرغيف نستحسن مذاقه، أو رغيف نأكله مرغمين، لكنها في كل الأحوال، وفي نهاية المطاف، كل ما سيتبقى لنا من الطعام!

إنها حصيلة ما عشناه وتعايشنا معه وواجهناه من لحظات ضيق ولحظات فرج، من أيام بيضاء، وأيام عكسها، وأيام تندرج بين اللونين، إلا أن كل هذه الأيام تتيبّس وتذبل ويتساقط ورقها ولا يبقى منها سوى أشجار الذكريات الوارفة خضرتها والعصية على التأثر بتناوب مواسم العمر، لا تجف مع سموم القيظ، ولا ينال منها صقيع شتاء، أو يُذهب نضارتها خريف، تبقى تلك الأشجار شامخة وباسقة تتحدى النسيان وتأبى إلا أن تطل برأسها من شباك الذاكرة، ربما تسقط الشخوص أو بعضها، لكن الحدث يبقى وشماً منقوشاً على جدار القلب يصعب علينا تخطيه وتجاوزه، كما لا يسهل على الزمن أن يعامله معاملة الطباشير، فيقوم بمسحه بواسطة «محّاية» الوقت!

ماذا لو أننا صحونا فجأة من النوم ووجدنا أننا بلا ذاكرة؟! أو لو أننا وُلدنا بذاكرة بعمر ذاكرة الأسماك، التي ينسى بعضها مكان غذائه بعد ثوانٍ معدودة؟! كيف ستصبح حياتنا؟! هل ستصبح أكثر تخففا من آلامها وخيباتها وأحزانها؟! هل سننسى سريعاً أي إساءة تنهش مشاعرنا، بقصد أو من دون قصد، مما يعفينا من مشاعر سوداء، مثل: الثأر والانتقام؟! هل سيتسنى لنا أن نعيش كل يوم وكأنه يوم جديد كيوم نولد؟! هل سنصبح أكثر سلاماً وتصالحاً مع أنفسنا ومع غيرنا؟! وهل ستمر أسماء من أحببناهم ذات يوم مرور الكرام على مسامعنا ولن نتذكر ألوان أعينهم، وكأننا لم نتقاسم معهم كأس الحب والمودة؟! هل ستمسح الذاكرة أولا بأول كل الكلمات المكتوبة في أوراقنا الزرقاء؟! هل ستذهب تجاربنا الحياتية التي مررنا بها مع الريح ولن نتمكّن من الاستفادة من تلك التجارب في تطوير معيشتنا الحياتية؟!

قد يتمنى البعض أن يحدث ذلك نتيجة تجربة أليمة مرَّ بها ولم يستطع تخطّيها، فما الذي يجعل بعض الأحداث تختمر في ذاكرتنا ولا تشيخ وتعمّر فينا إلى ما شاء لها البقاء، فيما تُمحى أحداث أخرى تذهب زبداً على بحر العمر وكأنها لم تكن؟! كيف تنتقي الذاكرة زادها ومخزونها من الطعام؟! هل هي الأوليات التي جربناها في حياتنا، أول حرف تعلمناه، أول كتاب، أول رحلة قمنا بها، أول قصة حب، أول فقد... إلخ؟! أم هي الأحداث الدراماتيكية التي نعبر بها أو تعبر بنا وتنشب أظافرها في وجداننا ولا يمكن فك الاشتباك بينهما إلا بانتزاع شيء منا؟! هل نحن من ينتقي ما يزرع في ذاكرتنا بوعي منا أو بغير وعي؟! أم أن ذاكرتنا هي التي تقوم بانتقاء مادتها بنفسها رغم أنف النسيان؟! لماذا ننسى نحن ما قد حدث لنا في زمن ما، فيما تحتفظ بها ذاكرة شخص آخر لا تعنيه بشكل مباشر؟! هل نحن نتواطأ مع ذاكرتنا أحياناً ضدنا دون أن نعي؟!

ما بين عتمة النسيان وضوء الذاكرة يمر شريط حياتنا غامضاً حتى بالنسبة لنا، محملا بأسئلة ترمي بضباب أجوبتها التي تجعل الذاكرة تترنح بين العمى والإبصار!

back to top