إيران ومشكلة الاحتلال الحربي

نشر في 31-05-2019
آخر تحديث 31-05-2019 | 00:00
إحدى حاملات الطائرات الأميركية في الخليج العربي
إحدى حاملات الطائرات الأميركية في الخليج العربي
إذا حصلت الحرب فسيكون هناك تهديدات متبادلة وربما غاراتٍ جوية وضرباتٍ مضادة لكن تدمير الجيش الإيراني سيؤدي الى احتلال ويفرض تحطيم إرادة المقاومة، وإن أخطار حرب الاحتلال معروفة تماماً ولكن الهدوء بعد تدمير جيش العدو هي النقطة الأخطر في الحرب.
جرى في الأونة الأخيرة الكثير من الكلام عن حرب محتملة بين الولايات المتحدة وإيران، وفي رأيي أن ذلك غير محتمل لأن الأخطار عالية جداً بالنسبة الى البلدين، ولا تستطيع إيران المجازفة لأن جيشها سيتعرض للدمار ولا تستطيع الولايات المتحدة القبول بأن تكون تكاليف النصر الحقيقي ما ستسفر عنه تلك الحرب.

ومنذ الحرب الكورية كان أداء الولايات المتحدة ضعيفاً في الحرب باستثناء عاصفة الصحراء عندما سمح تدمير القوات العراقية للولايات المتحدة بدخول الكويت، ولكن في فيتنام وأفغانستان والعراق واجهت الولايات المتحدة مشكلة ما سأدعوه حرب الاحتلال، وهو نوع من المعارك التي تحمل ثمناً جوهرياً حتى بعد الانتصار الأولي في الحرب.

المراحل الثلاث للحرب

يقول المنظر العسكري كارل فون كلوزويتز Carl von Clausewitz كانت هناك ثلاث مراحل للحرب تتطلب كل واحدة منها قدرات قتالية مختلفة، وكانت المرحلة الأولى تحطيم القوات العسكرية للعدو، وهو ما نفكر فيه بشكل نموذجي المعركة العسكرية، وتقضي المرحلة الثانية باحتلال ذلك البلد، وهو ما يشتمل على احتلال مادية للدولة التي تعرضت للهزيمة، وتأسيس أدوات الحوكمة والإنتاج والاستهلاك، أما المرحلة الثالثة فتقضي بتدمير قدرة العدو على المقاومة والتي لا تشمل تدمير معنوياته فقط، بل أيضاً تدمير أي رغبة من السكان لمقاومة المحتل.

المرحلة الثانية ضرورية لأن إلحاق الهزيمة بجيش عدو من دون احتلال البلاد يفتح الباب أمام تأسيس قوة عسكرية جديدة في الدولة التي تعرضت للهزيمة وعودة الى الخطر الاستراتيجي الذي أطلق الحرب في المقام الأول، وبعد الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، كان على الحلفاء احتلال ألمانيا واليابان أو المجازفة بترك قدرة الخصم على استئناف القتال وحشد قوة السياسية التي شكلت التهديد كبداية، وفي المرحلة النهائية كانت المفاوضات تعني إصرار الأميركيين على الاحتلال على الرغم من مقاومة اليابان له.

لكن المرحلة الثالثة للحرب لم تبرز في اليابان أو ألمانيا لسببين: الأول والأكثر أهمية أن الحلفاء لم يهاجموا الجيش العدو فحسب بل السكان المدنيين أيضاً، وتشتمل الحرب الحديثة على توجيه ضربات الى أهدافٍ صناعية، والمعامل تحيط بالسكان المدنيين وإن مهاجمة القاعدة الصناعية للعدو تعني مهاجمة السكان مما يمنع أي رغبة للمقاومة في المقام الأول، ولذلك فإن السكان لم يقاوموا ولن تتطور المرحلة الثالثة في أي حرب.

ثانياً، حتى في حال وجود إرادة للمقاومة حاول المحتلون القيام بتعريف سريع للأسلحة وتدميرها. والأسلحة المتبقية كان بالإمكان إعادة استعمالها لاستئناف القتال، ولكن في نهاية المطاف كان يجب الحصول على أسلحة جديدة. البعض كان يمكن أن يسرق من قوات الاحتلال، ولكن مع بعض الاستثناءات فإن تشكيل قوة لمقاومة الاحتلال يتطلب قوة خارجية راغبة في تقديم المواد مع وجود قاعدة لتوزيع تلك الأسلحة.

وفي العراق ألحقت الولايات المتحدة الهزيمة بالجيش العراقي خلال أسابيع، وكانت قادرة بسرعة على احتلال ذلك البلد، لكن أسلحة الجيش العراقي كانت قد حفظت في عدد من الأماكن والكثير من جنود القوات العراقية أخذوا أسلحتهم إلى بيوتهم. لقد دمرت الولايات المتحدة الجيش العراقي واحتلت ذلك البلد ولكنها واجهت بعد ذلك ظهور قوة لديها الإرادة والأسلحة للمقاومة، وحصلت على كليهما من داخل البلاد وخارجها، وقد فشلت الولايات المتحدة في تلك المرحلة الثالثة من الحرب.

الرغبة في المقاومة

في حالة حرب الاحتلال لا أمل لدى الدولة التي تعرضت الى الاحتلال في إلحاق الهزيمة بالجيش المحتل أو إلحاق قدر كبير من الضرر في قواته، لكنها تستطيع استخدام ميزاتها من أجل تقويض إرادة المحتل في المقاومة. ولدى القوة المقاومة عدة مزايا أهمها التفوق المعنوي لأن بلادها تعرضت الى الاحتلال ومن السهل توليد الرغبة في المقاومة، وإضافة الى ذلك تتمتع المقاومة بتفوق استخباراتي على المحتل ومعرفة ما الذي يجري.

وفي البيئة الحضرية تستطيع المدينة حجبهم عن الأنظار، ونقل المقاومة الى خارج المدن عملية صعبة وتتطلب جمع معلومات من السكان المدنيين، لكن رغبتهم في المساعدة محدودة بمدى تعاطفهم مع المقاومة ومدى كرههم للمحتل والخوف من عمليات انتقامية. وعندما يقوم المحتل بعمليات في مناطق سكنية يتعرض السكان المدنيون حتماً الى قتل أو إصابات مما يفضي الى زيادة الكراهية للمحتل ويقلص فرص التعاون.

ولهذا السبب تتسم حرب الاحتلال بصعوبة بالغة، فهي تتطلب من المحتل وضع استراتيجية تلائم الدولة المحتلة وتعتمد على معلومات عن الدولة لا تعرف القوات المحتلة شيئاً عنها، ولذلك فإن المحتل لا يستطيع تجاهل القوة المحتلة، لكن المقاومة تستطيع توجيه ضربات متى أرادت بناء على قدراتها.

وهذا يعني أن الاحتلال يكسب ما دام لم يتعرض لهزيمة وأن المحتلين يخسرون كلما استمرت المقاومة والمقاومة سوف تحاول خلق حرب بدون نهاية ليس لأنها تتوقع الانتصار بل لأنها تريد أن تكسر إرادة العدو في البقاء في البلاد. ويجب أن يكون للحرب غرضها ونهايتها والغرض من المقاومة واضح ولكن بمرور الوقت حتى الضحايا القلائل نسبياً الذين يسقطون نتيجة عمليات المحتل سترغمهم على إعادة النظر في القيمة السياسية لاستمرار الحرب.

ويشير كلوزويتز Clausewitz الى أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى وذلك أصدق ما يكون في حرب الاحتلال، وطوال سنوات يمكن أن تستمر الحرب مع الافتراض بأن الانسحاب سيقوض الصدقية الدولية وأن المحتل لا يستطيع أن يسمح لنفسه بأن يتعرض للهزيمة بهذه الطريقة، ولكن بمرور الوقت فإن ثمن الانسحاب يصبح أقل من تكلفة الحفاظ على الوجود.

حرب الاحتلال ضد مقاومة لها دوافعها وهي النوع الأكثر صعوبة في الحرب، فهي تحطم المحتل ليس عن طريق قوة رئيسة بل عبر تجفيف ثابت لموارده، وإن البعض قد يقول إن المقاومة لا تستطيع تحمل القوة الغاشمة وإن ذلك قد يكون صحيحاً في بعض الحالات ولكن لننظر الى محاولة ألمانيا لقمع المحاربين السوفيات والشيوعيين في عهد المارشال تيتو Tito. الألمان احتلوا تلك المنطقة لكنهم لم يتمكنوا من إلحاق الهزيمة بالمقاومة على الرغم من القسوة غير العادية. ولجأت قوات تيتو الى الجبال، وكان لدى الجانبين إمدادات من الخارج، وكان لديهما أيضاً حوافز عالية عبر الفكرة القائلة إن الاستسلام يعني الموت والوحشية الواضحة للمحتل تضع الصلب والفولاذ في يد المقاومة.

إغراء النصر

تستطيع الولايات المتحدة بكل تأكيد تدمير الجيش الإيراني كما تستطيع احتلال إيران لكنها عندئذٍ ستضطر الى الدخول في حرب احتلال، ويستطيع الإيرانيون فقدان السيطرة على بلادهم لفترة طويلة من الزمن، وستكون التكلفة عالية جداً بالنسبة الى كل جانب وتستطيع الولايات المتحدة بالطبع قصف إيران ولكن هناك دولة واحدة فقط استسلمت بعد مواجهة ضرباتٍ جوية فقط: يوغسلافيا في حرب كوسوفو، وحتى في هذه الحالة كان الاستسلام يتعلق بقدر أكبر بالدبلوماسية الخارجية وليس بآلام الحرب. القوة الجوية تستطيع إلحاق أضرار ضخمة لكنها لن تجبر البلد على التراجع، وتتطلب نهاية الحرب تحولاً سياسياً في الجيش والقوة الجوية في العادة لا تستطيع فرض مثل هذا التحول.

كانت الولايات المتحدة قد حصلت على تجربة مع حرب الاحتلال في أفغانستان وبشكلٍ ما في فيتنام وفي كل حالة كانت قدرة العدو على فرض حرب احتلال واسعة على الولايات المتحدة قد أجبرتها في الأجل الطويل على قبول حصيلة لم تكن تفكر بها في السابق. وفي العراق كانت الأمثلة الألمانية واليابانية من الحرب العالمية الثانية قد ادت الى الافتراض بأن المرحلة الأخيرة لن تشمل مقاومة ولكن هذين المثالين تبين أنهما لا ينطبقان على حرب العراق.

سوف يكون هناك تهديدات متبادلة وربما حتى غاراتٍ جوية وضرباتٍ مضادة لكن تدمير الجيش الإيراني سيؤدي الى احتلال ويفرض تحطيم إرادة المقاومة، وإن أخطار حرب الاحتلال معروفة تماماً ولكن الهدوء بعد تدمير جيش العدو هي النقطة الأخطر في الحرب، فهي تغري الحكومة المنتصرة على تصور أن هذا الوقت سيكون محتلفاً لكنه نادراً ما كان كذلك.

جورج فريدمان – جيوبوليتيكال فيوتشرز

الولايات المتحدة تستطيع بكل تأكيد تدمير الجيش الإيراني كما تستطيع احتلال إيران لكنها عندئذٍ ستضطر الى الدخول في حرب احتلال

في حالة حرب الاحتلال لا أمل لدى الدولة التي تعرضت للاحتلال في إلحاق الهزيمة بالجيش المحتل
back to top