أحمد زكي... «المتفرد» (3 - 15)

واثق الخطوة يمشي ملكاً

نشر في 26-05-2019
آخر تحديث 26-05-2019 | 00:00
مثل كرة الثلج ظلت الموهبة تكبر داخل قلب الأسمر اليتيم وعقله، صحيح في البداية لم يكن يدرك أن ما يمارسه من تقليد للبشر ليس إلا فن التمثيل، لكن لحظة الوعي بالموهبة دفعته للتمسك بحلمه ومحاولة تحقيقه، فكان قراره السفر إلى «أم الدنيا» لدراسة التمثيل بعد سنوات من ممارسته ضمن فرق الهواة سواء التي انضم لها أثناء دراسته بالمدرسة، أو ضمن منتخب المحافظة للمدارس الثانوية والتي كان زكي نجمها المميز.
كان زكي بمنزلة «الكنز» الذي عثر عليه الفنان وفيق فهمي، بوصفه مشرفاً على النشاط المسرحي، كان مؤمناً بموهبته، ولم يجامله أبداً حينما ضمّه إلى فريق التمثيل بقصر ثقافة الزقازيق التي كان يتابع نشاطها أيضاً الفنان محمد توفيق كلما سنحت ظروفه، وقد لفتت نظره موهبة الأسمر فلم يتردد في أن يولي «إمبراطور» التمثيل كل رعاية واهتمام ونصائح استفاد منها زكي خلال مشواره الفني.
عن سيرة الأسمر الموهوب نواصل.
راح زكي يخطط لتحقيق حلمه، لم يكن صعباً أن يحسم قراره بضرورة الرحيل للقاهرة ليطلق أحلامه منها، ويبدأ من خلالها مشوار الألف ميل، والذي حتماً لابد أن ينطلق من معهد التمثيل ليتاح له استكمال الناقص من موهبته عبر الدراسة الأكاديمية، كان مؤمناً بأن هذه الخطوة لا مفر منها على الرغم من كل العوائق، وأبرزها الجانب «المادي» والذي قد يحول دون تحقيق حلمه، فلا يمكنه مطالبة «أخواله» أو أهل والده الذين تناوبوا على رعايته مادياً وهو طفل صغير يتيم لا حول له ولا قوة، أن يواصلوا مشوار الدعم المادي خصوصاً بعدما تحصل على شهادة الدبلوم وبإمكانه أن يكون مسؤولاً عن نفسه ويتكسب من عرق جبينه ويواصل تحقيق أحلامه، لذا كان عليه تدبير أموره المعيشية قبل أن يقدم على خطوة الرحيل، فطريق الأحلام ليس دائماً مفروشاً بالورود، والإيــــمـــــــــان بالموهـــبــــة لا يكفي لتحقيق الحلم.

الامتحان الصعب

عقد الأسمر العزم على الرحيل للقاهرة «هوليوود الشرق»، وبالطبع لم تعترض العائلة، فموهبة زكي كانت حاضرة تعلن عن نفسها في كل وقت، ومن ثم فإن تتويجها بالدراسة هو المصير «المنطقي» والقرار السليم.

وعلى الفور، بدأ زكي تحضير أوراقه و«المشاهد» التي سيخوض من خلالها اختبارات القبول بمعهد التمثيل بمعاونة أستاذه ومعلمه وفيق فهمي، كانت أحلامه بعرض السماء، «واثق الخطوة يمشي ملكاً»، مؤمن بموهبته، لديه كل الثقة أنه يجتاز الاختبار بنجاح، مستنداً إلى آراء لجان تحكيم عديدة أثنت مراراً على أدائه سواء في العروض المدرسية أو خلال مشاركته مع فرقة التمثيل بمركز الثقافة.

عندما وطئت قدماه أرض القاهرة أصيب بصدمة، إذ لم يرَ في حياته مثل هذا الزحام، ارتبك بشدة وشعر أنه سيتوه في هذه العاصمة الكبيرة، وفي المعهد ازداد قلقه عندما رأى الأعداد الهائلة من المتقدمين والمتقدمات، كذلك عندما عرف أن كثيرين منهم يحملون «توصيات» فيما هو خالي الوفاض بلا وساطات.

مرت الأيام بطيئة وهو ينتظر موعد الامتحان، وفي الطريق مجدداً للقاهرة مر شريط حياته أمام عينيه، تلاشت كل مشاعر اليتم والحرمان والظروف الصعبة التي عاشها، لم يعد يتذكر إلا أنه أصبح الآن على أعتاب الحلم، وعليه أن يقتنص فرصته، راح يتمنى أن يغمض عينيه ويفتحها ليجد نفسه وقد اجتاز الامتحان بنجاح وأصبح بالفعل طالباً بالمعهد، كان يتخيل لجنة التحكيم وكيف سيؤدي أمامها المشاهد الفصحى والعامية وغيرها من تفاصيل الاختبارات والتي استعد لها تماماً.

لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهيه السفن، فبمجرد أن وقف زكي أمام لجنة الاختبار والتي كانت تضم كلاً من الفنان الكبير زكي طليمات مؤسس معهد التمثيل وأول عميد له، و د. سعيد خطاب عميد المعهد آنذاك، ود. رشاد رشدي أستاذ الأدب الإنجليزي والكاتب المسرحي (عمل عميداً لمعهد التمثيل في أوائل السبعينيات قبل أن يترأس أكاديمية الفنون عام 75)، كذلك الفنان سعد أردش أستاذ ورئيس قسم التمثيل والإخراج بالمعهد، إلا وعقد لسانه، ارتبك وتلعثم ولم يستطع أن ينطق بأي كلمة، نسي تماماً كل المشاهد التي كان قد تدرب عليها سلفاً وحفظها عن ظهر قلب، لم يفهم ماذا حدث له أو كيف أصابه «الخرس»، أو..أو، تساؤلات كثيرة راحت تتصارع داخل رأسه تبحث عن سبب مقبول يفسر له لمَ أحجمت موهبته عن الإعلان عن نفسها ورفضت الخروج للنور؟

وفي طريق عودته لمسقط رأسه يجر أذيال الخيبة والفشل احتار في تفنيد الأسباب، فقد كان بطلاً لفرق مسرحية توجت بالجوائز، ما يعني أنه اعتاد على مثل هذه الاختبارات العملية، فلمَ إذن ارتبك ونسي؟ هل انشغال أعضاء لجنة التحكيم ببعض الأحاديث الجانبية هو السبب إذ أصابه الإحباط ومن ثم فقد توازنه النفسي والذهني؟ هل بالغ في إحساسه بأن ما سيقدمه هو شيء شديد الخصوصية ومن ثم يحتاج للإنصات التام والاهتمام.

الفنانة سناء يونس أحد الذين آمنوا بموهبة زكي وشجعوه على الدراسة الأكاديمية، وبعد فشله في الاختبارات حكي لها كيف شعر بالضيق الشديد

والارتباك وهو يرى أعضاء لجنة الاختبار لا يعيروه اهتمامهم، وكلما حاول استعادة توازنه يجدهم على الحال نفسه، فحدث ما حدث من ارتباك وصمت ومن ثم لم يوفق.

يوم مر.. يوم حلو

فشل زكي في اجتياز اختبارات القبول بمعهد التمثيل ربما ليس الأول في مشواره ولكنه حتما الأكثر مراره، وللحظات تشكك في موهبته، واعتبر أن كل ثناء كان نوعاً من المجاملة، وربما عطفاً عليه بوصفه «يتيماً» ومشاعر أخرى سلبية لم يفلح في تجاهلها أو الهروب منها، حتى محاولات البعض للتخفيف عنه بالربط بين فشله وعدم وجود «وساطة» تعينه على تجاوز الاختبارات، فكرة رفضها زكي تماما لإيمانه بأن الموهبة الحقيقية لا تحتاج لمن يتوسط لها، يضاف لذلك رفضه دوماً طلب أي مساعدة واعتداده بنفسه وبكرامته.

مرت الأيام عصيبة على الأسمر اليتيم، حاول فيها جاهداً تجاوز أزمة فشله ومواصلة حياته، ومرة أخرى كان التمثيل والفن هو «المنقذ» الذي خفف عنه مرارة الأيام وصعوبة تحقيق الحلم، وبناء على نصيحة أستاذه ومعلمه وفيق فهمي راح زكي يواصل مشوار التدريب «العملي» من خلال العمل في فرقة قصر الثقافة، بل امتد نشاطه المسرحي لبعض المراكز المحيطة التي شارك في عروضها ممثلاً ومخرجاً أيضاً.

هذا الاندماج تماماً في العمل المسرحي ساعد الفتى الأسمر على تجاوز أزمته، والأهم أنه منحه الفرصة ليمارس تمريناً عملياً بتقديم العروض أمام جماهير متنوعة وليس فقط زملاء الدراسة أو مركز الثقافة والذين يشعر دوماً بالألفة في العمل معهم وبينهم، ومع الوقت أدرك أن أحد أسباب فشله ترجع بالأساس لصدمة خروجه من قوقعته لعالم آخر أكثر اتساعاً ورحابة، عالم لا يعرف تفاصيله ولا يجيد التعامل معه، رغم أنه المحترف الموهوب في فنون الأداء القادر على إبهار كل من حوله وهو ما سوف يحدث لاحقاً، لأنه من غير المعقول لبطل شارك في العديد من العروض المسرحية حصدت جوائز وحقق كممثل ردود فعل ايجابية كثيرة لا يمكنه استيعاب حديث جانبي، مع الأخذ في الاعتبار الظروف التي عاشها أحمد في طفولته وصباه والتي حتما كانت أقسى ألف مرة.

أدرك زكي وكما اعترف لاحقاً أنه كان يرتبك في مواجهة أناس مختلفة عن هؤلاء الذين يعرفهم واعتاد التعامل معهم، وتلك كانت بمنزلة العقبة التي جعلته يحجم عن إظهار موهبته، وهو نفس ما تكرر مرارا في سنوات إقامته الأولى بالقاهرة، حتى أن الفنانة شهيرة حكت أنه خلال دراسته بالمعهد كان يفضل الجلوس وحيداً وفي مكان منزوٍ، مما يعني أنه دوماً كان يجد صعوبة في الاندماج مع الآخرين خصوصاً في بداياته، كنتيجة طبيعية للسنوات التي كان يحدث فيها الصمت، ولا يتحرك إلا إذا ناداه أحدهم.

من جانبه اعترف د. حسن البنا استشاري الأمراض الباطنة والصديق الصدوق لأحمد زكي وطبيبه الخاص «أنه وعلى الرغم من شهرته فإنه كان شخصاً انطوائياً جداً بسبب «اليتم»، لكن بفطرته السليمة اكتشف ضرورة أن يمارس هذا التدريب مع نفسه، وبالفعل نجح في كسر عزلته الاختيارية واندمج تدريجياً مع مجتمعه الجديد.

الانكسار

على محطة القطار راح زكي يتابع في ذهول القطارات القادمة من مدن القناة والتي تحمل جثث شهدائنا، يسمع أنين المصابين وهو يعلو ويعلو يعتصر قلبه، وقف مع غيره عاجزاً عن فعل أي شيء، حتى الصراخ لم يعد مجدياً فلقد قضي الأمر واستيقظ الشعب وكل حالم بالعزة والكرامة على صدمة الهزيمة العسكرية.

قبلها بأيام قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة كان زكي يتابع مع الجميع البيانات العسكرية والتي تبثها الإذاعة المصرية وكلها تؤكد انتصار الجيش المصري، وتتحدث عن كم الطائرات الإسرائيلية التي نجح سلاح الطيران المصري في إسقاطها، ومع كل بيان كانت تتعالى الصيحات والهتافات، لكن حالة من الصمت والأنين المكتوم خيمت على الجميع بعدما تكشفت الحقيقة، لم يستطع تجاهل نظرات الحزن والقهر المتحجرة في عيون من حوله، حاصرته الأسئلة لماذا وكيف و...؟ لكنه لم يجد إجابات قاطعة شافية، كان مصدوماً بشدة، فكيف يهزم «الزعيم» الذي كان بمنزلة والده الذي لم يره، مثله الأعلى الذي يثق برؤيته حتى أنه ومن فرط عشقه كان يحفظ فقرات كاملة من خطبه وعن ظهر قلب، وعندما التحق بمعهد التمثيل كثيراً ما كان يردد خطب الزعيم في فترات الراحة بين الفصول الدراسية، كما أكدت زميلته الفنانة عفاف شعيب في أحد الحوارات التي حكت فيها عن زكي في ذكرى رحيله وكيف كان يتقمص روح عبدالناصر، وكأنه كان يتدرب على تجسيد هذه الشخصية التي سيقدمها بعد سنوات في أحد أهم أفلامه وأحلامه أيضاً.

عن الهزيمة العسكرية وما خلفته من آثار نفسية حكى زكي عنها في أحد حواراته قائلاً: لن أنسى هذه الأيام وكيف كانت الدموع تسيل من أعيننا جميعاً غير مصدقين ما حدث، هل حقاً كما تقول الإذاعات الغربية أننا بالفعل منينا بهزيمة ثقيلة، هل حقا غدر بنا؟ لهذا كنت سعيداً عندما أتيح لي المشاركة في أفلام مثل «أبناء الصمت» أو «بدور» والتي أظهرت شجاعة الجندي المصري.

طريق الأحلام وخيبات الواقع

بين الهزيمة على المستوى الشخصي والعام عاش زكي فتره عصيبة جداً حاول خلالها لملمة نفسه وترتيب أوراقه، للحظات فقد حماسه لمواصلة طريق الأحلام، فكل شيء من حوله أصبح بلا طعم ولا معني، الإيجابية الوحيدة التي خرج بها زكي من تلك التجربة أنه بدأ يعتمد على ساعده ويتحمل مسؤولية نفسه «ماديا» مستفيداً من دراسته، ومع الوقت بدأ يهدأ و يرتاح، يقترب مجدداً من عالمه المحبب يراقب، يدون الملاحظات، يدرسها وحده، ويجرب النتائج، كانت بداخله رغبة في العمل دون توقف.

عاد زكي للعمل المسرحي مرة أخرىي بعدما شجعه على المضي قدماً في هذا الطريق أستاذه ومعلمه الفنان وفيق فهمي، الذي نجح في إقناعه بتكرار تجربة خوض اختبارات الالتحاق بمعهد التمثيل، وظل يعلمه ويدربه كثيراً حتى حان موعد التقديم في اصطحبه للقاهرة ولم يفارقه خلالها، واختار زكي مشهداً من مسرحية «وراء الأفق» التي كتبها الكاتب المسرحي الأميركي أونيل يوجن (1888-1953)، والتي سبق وقدمها زكي خلال العروض المدرسية ولعب خلالها دور الجاسوس.

ولأنه برع جداً في أداء هذا الدور قرر زكي بالفعل اختياره وإعادة التدرب عليه، خصوصاً أنه نجح من خلاله في أن تحصد به فرقته المدرسية المركز الأول في مسابقة المسرح المدرسي، وبالفعل بدأ يتدرب عليه حتى أتقنها تماماً خاص أنها المرة الثانية التي سيخوض فيها الإختبارات ومن ثم لا يريد أن يفشل مرة أخرى.

صدمته العاصمة من أول نظرة وفشل في أول اختبار بمعهد التمثيل

كان يجد صعوبة في الاندماج مع الآخرين خصوصاً في بداياته

فشل في الإجابة عن سؤال لمَ يحب الفن؟ فكان ترتيبه الأول
back to top