محمود المليجي... شرير الشاشة (3-10)

وجبة روبيان أطاحت أحلامه في تصدُّر ملصقات الأفلام

نشر في 26-05-2019
آخر تحديث 26-05-2019 | 00:01
تجاوز الفنان محمود المليجي أصعب فترات حياته عندما طرق أبواب مسرح رمسيس، ولم يجد سوى وظيفة «ملقن» وبعدها منحه أستاذه يوسف وهبي أدواراً صغيرة. وتوالت الأحداث في الحلقة السابقة، ليثبت «عملاق الشر» قدميه في عالم التمثيل، ويحظى بحضور لافت في السينما والمسرح، وهو دون الثلاثين من عمره، وتتوطد صداقته بغريمه «ملك الترسو» النجم فريد شوقي، ويصبحان من أشهر الثنائيات الفنية في تاريخ السينما المصرية.
بعد اللقاء الأول بين الغريمين في كواليس مسرح رمسيس جمعتهما بعد سنوات «نقابة الممثلين». آنذاك، كان المليجي نجماً لامعاً، وأسس شركة إنتاج خاصة في عام 1947، وكان يجهز لباكورة إنتاجه فيلم «المغامر». وتصادف أن الممثل الشاب فريد شوقي ذهب إلى النقابة، ليجلس مع نجوم كبار كحسين رياض وزكي رستم، وهناك عرض عليه «الشرير» دوراً في هذا الفيلم مقابل 100 جنيه، ونال شوقي إعجاب غريمه بأدائه التلقائي، وخفة ظله.

شهد «المغامر» مباراة تمثيلية بين كل من المليجي وشوقي وسراج منير، وبفضل أدائهم المبهر، تمكن الفيلم من أن يصمد في دور السينما ويقبل عليه الجمهور رغم الطابع الميلودرامي للأحداث، ليغامر المليجي بإنتاج أفلام أخرى، وهي «عواطف» 1958 للمخرج حسن الإمام، و«أبو الليل» 1960 للمخرج حسام الدين مصطفى، و«ألو أنا القطة» 1975. وبعد ذلك توقف تماماً عن الإنتاج، وأعلن ندمه على دخوله هذا المجال.

كان المليجي «المنتج» يطمح في الارتقاء بمستوى الإنتاج السينمائي، وأدخلته التجربة في صراع بين ضعف الإمكانات المادية والبحث عن موضوعات جادة، وتناولها برؤية مغايرة للنمط السائد في ذلك الوقت. لكنها كبدته خسائر مالية، ووضعته في مأزق بعد إنتاج الفيلم الكوميدي «ألو أنا القطة»، الذي شارك في بطولته مع كل من نور الشريف وعادل إمام وبوسي، ليعود إلى عشقه الأول، كممثل استثنائي في تاريخ السينما المصرية.

ولعل الحوارات الإذاعية والتلفزيونية التي أجريت مع المليجي، كشفت عن موهبة أخرى، وهي قدرته الفائقة على السرد المشوق لبعض المواقف في حياته، واهتمامه بأدق التفاصيل، وهي صفات تجتمع في أديب أو كاتب روائي، وتفسر لماذا اقتحم «الشرير» مجال كتابة السيناريو والحوار لأفلام «المغامر» 1948 للمخرج حسن رضا، و«الأم القاتلة» 1952 للمخرج أحمد كامل مرسي، و«وعد» 1954 للمخرج المخرج أحمد بدرخان. كذلك ألّف قصة فيلمي «سجين أبو زعبل» 1957 للمخرج نيازي مصطفى، و«المبروك» 1959 للمخرج حسن رضا، ويعد الأخير إحدى أنضج تجاربه في الكتابة، وجسد فيه شخصية المحتال الذي يطوف القرى، ويخدع الناس بقدراته الخارقة، وتنتهي الأحداث بدخوله إلى السجن.

وفي هذه الأفلام التي كتبها أو أنتجها، دفع المليجي بكوكبة من النجوم والوجوه الشابة، كفريد شوقي، وسراج منير، وأحمد رمزي، وهند رستم، وزهرة العلا، وأمينة رزق، ومحسن سرحان، وكمال الشناوي، وشكري سرحان، ونور الشريف وغيرهم، وتعامل مع أجيال من المخرجين. وبينما تعثرت تجربته الإنتاجية لتضم أربعة أعمال فقط، ظهرت الحماسة للتأليف في أعوام متتالية، ليتفرغ بعدها للتمثيل تماماً، ويتخلى عن مواهبه الأخرى.

ملوك الشر

لم ينس فريد شوقي فرصة العمر التي منحها له «المغامر» وعندما دخل مجال الإنتاج عام 1951، لم ينتج فيلماً إلا وأشرك فيه المليجي. والمفارقة أنهما اجتمعا في «أمير الانتقام» عام 1950، في دوري شريرين يدبران المكائد للبطل «حسن الهلالي» الذي قام به أنور وجدي، وأخرج الفيلم هنري بركات، والأخير قدَّم نسخة أخرى من الفيلم بعنوان «أمير الدهاء» 1964 وأسند البطولة إلى شوقي، بينما تباعدت أدوار «الطيب» عن «شرير الشاشة».

وما زالت ذاكرة السينما، تحتفظ بأفلام الثنائي التي حققت إيرادات عالية، وجلبت لهما الشهرة والنجاح، بطابعها التشويقي مثل «حميدو» 1953 للمخرج نيازي مصطفى، و«بطل للنهاية» 1963، و«عصابة الشيطان» 1971 و«ملوك الشر» 1972 للمخرج حسام الدين مصطفى، وغيرها من أعمال دارت حول البطل فريد شوقي وصراعه مع الشرير محمود المليجي.

وعن رؤية فريد شوقي للمليجي كممثل، اعتبر أن عينيه معبرتان للغاية، والشر في أدواره كان عنيفاً، وأنه أخذه من مدرسة «الشرير خفيف الظل». ولكن أداء المليجي لم يقتصر على هذه النوعية، إذ جسَّد شخصية «الباشا» في «غروب وشروق» للمخرج كمال الشيخ، وقام بدور الفلاح محمد أبوسويلم في «الأرض» للمخرج يوسف شاهين.

رسالة الفيلم

جلبت أدوار الشر مواقف طريفة لمحمود المليجي. مثلاً، عندما كان المشاهدون يلتقونه في الطريق، كانوا ينادونه بأسماء الشخصيات التي يجسدها، أو يقول أحدهم: «سنحضر لك فريد شوقي ليضربك»، وحينها كانت ترتسم الابتسامة على وجهه ويشعر بالسعادة، لأنه استطاع أن يقنع المشاهد بأدائه هذه النوعية من الأدوار، ولأن الفيلم أدى رسالته في إثارة الكراهية للشخصية الشريرة.

أدرك عملاق الشر أن جماهيريته ترتكز على معادلة صعبة: الإعجاب بأدائه كممثل، والسخط على الشخصية الشريرة التي يجسدها. وبرَّر هذا بأن الجمهور العربي عاطفي، ويتعايش مع أحداث الفيلم، وهو اكتشف ذلك عندما ذهب ذات يوم إلى دار سينما تعرض فيلماً شارك في بطولته، ورغم دخوله إلى صالة العرض بعد إطفاء الأنوار، فإن أحد الرواد تعرف إليه، وقال للجالس بجانبه: «ده محمود المليجي». وكان كلما ظهر في أحد المشاهد، ينهال عليه هذا الشخص بكلمات قاسية، وبعد انتهاء العرض، اقترب منه، واعتذر إليه لأنه يحبه كممثل، ولكنه يكره الشخصيات التي يؤديها.

وفي رأي للناقد طارق الشناوي، قال إنه عندما بدأ فريد شوقي في الأربعينيات أداء دور الشرير على طريقة أستاذه المليجي، كان المنتجون يرون فيه بديلاً للأخير، وهكذا كانت الأدوار تعرض أولاً على المليجي وعندما يرفضها يحظى بها فريد شوقي. وبلغ تسامح المليجي أنه كان بعد الرفض يسارع إلى الاتصال بفريد ليؤكد له اعتذاره كي يرفع أجره لأنه لا بديل للبديل. ويمرّ زمن بعدها لا يتجاوز السنوات العشر ليصبح فريد منذ مطلع الخمسينيات «سوبر ستار» يقطع له الجمهور تذكرة السينما، بينما أستاذه لم يتصدر اسمه الملصق أبداً... حتى فيلم «الأرض» الذي ينسبه الجميع إليه، سبق اسم نجوى إبراهيم اسم محمود المليجي على الشارة.

ولكن ما يتبقى مع مرور الزمن ليس الشارات ولا الملصقات، بل الشريط السينمائي. وهكذا ظل محمود المليجي الفنان الذي لا يمكن أن ننسى إطلالته على الشاشة، حتى لو جاء اسمه في المركز الثالث أو الثامن، فهو فنان استثنائي أثرى الشاشة بموهبته المتفردة.

المخرج والشعر المستعار

ارتبطت أدوار البطولة السينمائية لفترة طويلة بالفتى الوسيم، ما اضطر بعض النجوم إلى ارتداء الشعر المستعار، ولكن المليجي رفض أن يغير من شكله الحقيقي، باستثناء بعض الأدوار التي تقتضيها طبيعة الشخصية.

بدأت قصته مع الصلع في العشرينات من عمره، بعد تناوله وجبة روبيان فاسدة، وكاد أن يفقد حياته بسبب التسمم، ولكن استطاع الأطباء إنقاذه، لكنه لم يجد علاجاً لتساقط شعر رأسه، وبعدها شكلت «الباروكة» مفارقات طريفة في بعض أعماله السينمائية.

كان المليجي يعتبر أن حصره في أدوار الشر نوع من الكسل لدى صانعي الفيلم، وأن المخرج كالعازف والممثل كآلة موسيقية، فإذا لم يستطع العازف أن يعزف عزفاً جميلاً على آلته فلن تخرج أنغامها الرائعة. وبحسب النجم، ثمة مخرجون يعرفون ما يفعلونه، وآخرون لا يعرفون، ولكنهم يأخذون برأي من يعرف. وثمة فصيل ثالث يتمسك بآرائه الخاطئة ولا يستمع إلى أحد، من ثم ينطبع ذلك على الفيلم، لا سيما الممثلين المشاركين فيه.

المليجي جمعه سوء الحظ مع مخرج من هذه النوعية، وكان معه محسن سرحان وفريد شوقي، وكلاهما يرتدي «الباروكة» وطلب هذا المخرج من المليجي أن يضع «باروكة» مثلهما، واكتشفوا أن ثمة أخطاء في الخط الدرامي للفيلم، وتحريك الكاميرا، وزوايا التصوير، وتناقشوا مع هذا المخرج، لكنه أصر على وجهة نظره، وقرروا أن يلقنوه درساً قاسياً.

وفي صباح اليوم التالي حضر النجوم الثلاثة إلى موقع التصوير باستوديو «ناصبيان»، وجلسوا في انتظار المخرج حتى الواحدة ظهراً، وخلال هذه الساعات كان يفكر في تنفيذ أحد المشاهد، وأصابهم الضجر، فقالوا له إنه لا جدوى من الانتظار وإنهم سينصرفون، فقال: «سأصوِّر هذا المشهد حتى لو انتظرت عشرين سنة»، وعندما شعر بضيقهم، قام ليبدأ التصوير، وحينها قرروا أن يرتدي كل واحد منهم باروكة الآخر، وتبادلوا أداء الأدوار باندماج شديد، فقال المخرج «ستوب» وأثنى على أدائهم المذهل.

كاد الموقف أن ينتهي، لولا أن مساعد مهندس الصوت ذهب للمخرج وقال: «يا أستاذ الكلام الذي قيل خطأ»، فاستفسر منه المخرج عن السبب، فقال مساعد مهندس الصوت: «هل المليجي يلعب دور فريد؟»، فقال: «لا، كل واحد يؤدي دوره»، فقال مساعد الصوت: «الكلام متلخبط يا أستاذ»، فطلب المخرج أن يأتوا له بالسيناريو، فسألهم: «لماذا فعلتم ذلك؟»، فقالوا له: «الماكيير أخطأ في الباروكات، وكل واحد لبس باروكة الآخر»، فقال: «وما الحل الآن» فقالوا: «نعيد المشهد مرة أخرى»، وهنا قال له فريد: «يا أستاذ هل من الممكن في المونتاج يبدلوا أصواتنا فيصبح المشهد صحيحاً؟» فقال المخرج: «فكرة جيدة»، ونادى على المونتير وأخبره بذلك، فصرخ في وجهه: «صوت إيه اللي هاننقله؟.. لابد من إعادة المشهد»، وبالفعل أعادوا المشهد، وارتدوا «باروكاتهم» الصحيحة، ولكن المفارقة أن المخرج وضع «الشوت الخاطئ» في الفيلم وتم عرضه، وهذا أكبر دليل على جهله بأصول الإخراج.

غزل البنات

بدا عام 1928 فارقاً في حياة الممثلين الشابين محمود المليجي وأنور وجدي، عندما اختارهما المخرج إبراهيم لاما للمشاركة في فيلمه الروائي الصامت «قبلة في الصحراء» وبعده جمعتهما صداقة وزمالة فنية. وظهر «شرير الشاشة» في معظم أفلام وجدي الذي حقق شهرة واسعة كممثل ومخرج ومنتج، حتى رحيله في نهاية الخمسينيات.

ويعد أنور وجدي أول من سدَّد اللكمات إلى «شرير الشاشة» وأدى دور «الطيب» قبل أن يتسلم الراية فريد شوقي، وظهر ذلك في فيلم «غزل البنات» 1949 الذي أخرجه وجدي وجمع خلاله كوكبة من النجوم من بينهم نجيب الريحاني ويوسف وهبي واستيفان روستي وسليمان نجيب وعبدالوارث عسر. وأدى المليجي دور شاب مستهتر، يستدرج ابنة الباشا (ليلى مراد) لمقابلتها في ملهى ليلي، ويستنجد أستاذها (الريحاني) بشاب يرتدي ملابس طيار (أنور وجدي) فيدخل إلى الملهى، ويطرح المليجي أرضاً، وتتوالى الأحداث.

وفي العام التالي، اتسعت دائرة الصراع بين المليجي ووجدي، وذلك في فيلم «أمير الانتقام» المأخوذ عن رواية ألكسندر دوماس «الكونت دي مونت كريستو» وإخراج هنري بركات، وتدور أحداثه حول شخصية «حسن الهلالي» الذي يسجن ظلماً، ويساعده سجين عجوز (حسين رياض) على الهرب، ويقرر الانتقام من الأشخاص الذين دبروا له المكائد، ومن بينهم محمود المليجي وفريد شوقي وسراج منير.

جمعت المليجي ووجدي مواقف طريفة، ودائماً كانا يلتقيان في «قهوة الفن» بشارع عمادالدين (وسط القاهرة)، وبعدها «نقابة الممثلين» وكانا حققا في نهاية الأربعينيات قدراً كبيراً من الشهرة، وامتلك كل منهما سيارة خاصة، وذات يوم رآى المليجي صديقه، وقد بدا الحزن على ملامحه، فسأله عن السبب، فقال وجدي إنه يمر بضائقة مالية، ولا يعرف ماذا يفعل، وحينها قررا تنفيذ فكرة غريبة، وكأنهما يمثلان مشهداً في أحد الأفلام، وركب كل منهما سيارته، وبعدها اصطدما بالسيارتين، ثم ذهبا إلى شركة التأمين، وصرفا مبلغ التعويض!

أصعب اختبار مع زكي رستم

عندما سُئل الفنان محمود المليجي عن الممثل الذي يخشى الوقوف إلى جانبه، قال إنه العملاق زكي رستم، وقد تعلم منه درساً في ضبط الاندماج، كي لا يتحول الأمر إلى كارثة. فقد عرف عن رستم أنه شديد الاندماج، وذات مرة تسبب لإحدى الفنانات بصمم مؤقت عندما صفعها بقوة في أحد المشاهد، فقد كان يعايش الشخصية بكل ذرة من كيانه، ما جعل «شرير الشاشة» يحترس عند الوقوف إلى جانبه، ويغلب عليه التوتر، لا سيما عندما كان رستم يرمقه بنظرات يتطاير منها الشرر، وحينها كانت تنهار قواه، ويرتعد جسده من الخوف!

ورغم الخبرات التي اكتسبها المليجي من زكي رستم خلال أفلام تعاون معه فيها، ومنها «ضحايا المدينة» 1946 و«رصيف نمرة 5» 1956 للمخرج نيازي مصطفى، و«موعد مع إبليس» 1955 للمخرج كامل التلمساني، فإنه احتفظ ببصمته الخاصة في الأداء، وهو أمر تعلمه من أستاذه الأول المخرج عزيز عيد، وحينها أدرك أن استسهال التقليد هو الفشل الحقيقي لأي ممثل، والمعطل لاكتشاف موهبته، وقدراته الحقيقية، لذلك لم يكن يكتفي بقراءة دوره، بل كان يطالع السيناريو كاملاً، وبعدها يحضر للمعايشة مع دوره ويفهم أبعاده جيداً، ويتأهب تماماً للدخول في الشخصية، عندما يصيح المخرج «أكشن».

واجه المليجي اختباراً صعباً، وضعه في مقارنة مع الفنان زكي رستم، وكان الأخير شارك في بطولة فيلم «امرأة في الطريق» 1958 للمخرج عز الدين ذو الفقار، وبطولة: رشدي أباظة، وهدى سلطان، وشكري سرحان. وأنجز كاتب السيناريو عبدالحي أديب، معالجة جديدة في فيلم آخر «شوق» 1976 للمخرج أشرف فهمي، وبطولة: نادية الجندي، وحسين فهمي. واستقرت الترشيحات على المليجي ليقوم بدور الأب الضرير الذي يدلِّل أحد أبنائه، ويقسو على الآخر، فجسَّد الشخصية بأسلوبه المتفرد، كذلك كان أداء رستم، فأمتعا المشاهد بموهبتيهما الطاغيتين.

«المغامر» يمنح فريد شوقي فرصة العمر في نقابة الممثلين

«عملاق الشر» يعتزل الإنتاج السينمائي بعد «آلو أنا القطة»

سوء الحظ يجمعه بمخرج لا يعرف أدوار «الباروكات الثلاث»
back to top