من العرف إلى القانون... مطارحة في تقدم الإنسان

نشر في 29-03-2019
آخر تحديث 29-03-2019 | 00:05
 د. محمد بن عصّام السبيعي لا أجد أحيانا ما هو أكثر إثارة للدهشة من زهو أحدهم بسيادة القانون وأن ذلك علامة على تفوق الإنسان وروحه المفطورة على التقدم، فالقانون وإن كان سببا في استقرار المعاملات وتوطيد الرفاهية إلا أن ماهيته لا تحمل كثيرا من دواعي اعتداد الإنسان بذاته وقدرته على السلوك الإيجابي. فالقانون بوصفه حشدا من قواعد ملزمة للسلوك تمليها سلطة عليا، يعين ما على كل فرد فعله أو تركه، وهو ملزم بمعنى أن عدم الانصياع يستتبع إرغاما من قبل جهاز للقهر. فصفة القانون المنافية لتصور مثالي للفرد ونزوعه نحو السلوك بإيجابية تستبين من أنه يفرض، حتى في أكثر المجتمعات إمعانا في الديمقراطية، قوالب للسلوك قد لا يقبلها الفرد.

صفة القانون الأخرى التي ترسم صورة داجنة لإنسان لا يرعوي إلا حيال القوة هي وجود القهر ممثلا بجهاز دائم. فإذا نص القانون على عدم جواز تبادل أو بيع وشراء في موقع ما أو بسلعة ما فإن إقدام الفرد على ذلك رغم عدم تضرر طرف ثالث، أو لربما رغم إفادة المجتمع منه، فذلك يعرض الفرد للقهر، ولو جاز لنا أن نصوغ ذلك في معادلة لكانت: إن فعلت كذا فستعاقب بكذا. على أن تحكم القانون بسلوك الفرد لا يقف عند هذا الحد، بل يتفاقم إلى معاقبة الفرد على عدم الفعل أيضا، أي إن لم تفعل كذا فستعاقب بكذا: فإن لم تفصح عن أموالك بغية اقتطاع ضريبة، أو لم تنخرط في الخدمة العسكرية فستعاقب بما هو منصوص عليه. ولعل الفرد يتقبل هنا أن يساءل على عدم الفعل، خاصة إذا تبرأت السلطة من أعراض الفساد، فهو يلبي نداء الدفاع عن الوطن حال تعرضه لعدوان، ذلك ليقينه بتضرره شخصيا من وراء ذلك، كما يبذل طواعية ما عليه من ضريبة لما يراه من أثر ذلك في توطيد أحوال الرفاهية. إلا أن ما لا يفهم هنا هو مغالاة في مثل هذا النوع من النصوص والقهر تجاه امتناع الفرد عن الفعل، لا سيما إذا كان للامتناع عن الفعل إضافة إلى رفاهية المجتمع، فالكاتب لا يزال يذكر كيف طلب منه مرة عند تجديد رخصة القيادة أن يدفع غرامة تأخير. بمعنى أن المشرع يسن عقابا لأن الفرد كف عن قيادة المركبة، وبذا لم يساهم في إشغال الطرق وازدحامها وتلويث الهواء. ومثل ذلك من يطالب مواطنا باستخراج جواز سفر، حتى إن كان هذا ممن لا يحلو لهم مقام إلا في موطنهم أو كأن دفع المواطنين لمغادرة بلادهم قيمة ينشدها المشرع. تلك أمثلة لأمور عجيبة يصادفها المرء في هذا البلد.

مقابل ذلك كان العرف سائدا كميثاق لقواعد السلوك قبل ظهور الدولة المركزية، ولا يزال أيضا فاعلا في مواقف يتعسر على القانون تغطيتها بجهازه القهري، إلا أنه كان متخلصا من خصال للقانون سالبة لحق الإنسان في تقرير مصيره وحريته في السلوك أو تركه. وأكثر من ذلك فقد كان محصنا ضد مهاوي فساد قد يتردى إليها القانون أو القيمون عليه. ففصيل القهر الذي يحمل على عاتقه مهمة استتباب القانون غائب في العرف، فهنا تناط مهمة استيفاء الحق المادي بصاحبه أو من يرى في نفسه شريكا أو نائبا عنه، ورغم تواضع إمكانات الفرد هنا في التحري واستيفاء الحق، فإن مأثرة ذلك أنه يجنب القاعدة العرفية فسادا لا يأمن القانون وقوعا فيه. ففي مجتمع عرفي ليس لصاحب حق مصلحة في اقتصاص من أحد سوى مطلوبه، بمعنى أنه لن يثأر من عمر رغم علمه أن زيدا هو مطلوبه. أما في دولة تتمرغ في الفساد فلا تعجب من تلاعب في مجريات التحري وتلفيق التهم، أو من تبرئة مذنب وإدانة بريء.

كما أن الجزاء في القاعدة العرفية ليس كما هو في القانون، أحاديا متمثلا فحسب في الوعيد والتلويح بالعقاب، بل يتعداه إلى إثابة السلوك المتوافق، فجهاز ضبط السلوك المتمثل في أداتي الاستحسان والإنكار يقوم على التأييد والثناء على ما يتوافق مع العرف والشجب والاستهجان لما يخالف ذلك. ورغم الطابع الناعم لهاتين الأداتين فإن مفعولهما في حفظ قواعد السلوك ودعائم المجتمع قبل الدولة لا ينكر بحال. وهما كذلك أداتان فعالتان بحسب نظريات حديثة في سوسيولوجيا الجماعات.

كما أن بساطة العرف ونهوضه على كاهل المجتمع كافة وليس اختصاصا لسلطة مركزية جعل من ترتيب الجزاء المادي حصرا في حال اقتراف أحدهم فعلا مخالفا للقاعدة العرفية، أما أن يكون ذلك لامتناعه عن الفعل فلا، فليس لضيف أن يلحق ضررا ماديا بمضيفه لأنه لم يكرم وفادته. له ولغيره أن يوظف أدوات الضبط غير المادي، أي أن ينكر ذلك، أن يهجوه شعرا، ولكل من هذه وتلك مفعولها، ولكن لا أن يُلحق به أذى بدنيا أو ماديا.

back to top