أندريه كالفايان: لوحاتي تُعيد إلى «المُهمَل» بريقَه

نشر في 22-03-2019
آخر تحديث 22-03-2019 | 00:02
لُقّب بـ «رسام المُغتربين» لكونه ينقل إلى هؤلاء عبر لوحاته دفء الوطن الأم. تحكي شبابيكه وشرفاته وسياراته القديمة قصص أشياء وأماكن هجرها سكّانها، وتؤسّس مدرسة خاصة اشتهر بها عربياً وعالمياً. «الجريدة» التقت الفنان التشكيلي المميّز، فدار الحوار المشوّق التالي:
• بدأت بالرسم صغيراً، مع أنّك لم تقصد مدرسة أو جامعة أو معهداً متخصّصًا للفنّ التشكيلي. كيف لفنانٍ أن يطوّر موهبته من دون دراسة؟

- قد تستغربين إن أخبرتك أنّني شخصياً لا أؤمن بصقل الموهبة بالتعليم الأكاديمي. لا أؤمن بما يسمى أكاديمياً بـ "فن الرسم"، بل بالموهبة التي تبدأ منذ الطفولة، حين تدهش رسومك الأهل والجيران أولا، فيغدقون عليك مديحاً كفيلاً بإنتاج ما يكفي من الدفع لديك لإعطاء المزيد، خصوصا حين يتناهى الى مسمعك أنّ "موهبتك خارقة". وحين تبلغ الخامسة عشرة من عمرك تسمع بفنّ الرسم. كثيرة هي الكتب التي تعلّم فنّ الرسم اليوم، لكنّ التحصيل الأكاديمي برأيي لا يشكل اندفاعة حتميّة نحو الاحتراف. الشغفُ أهمّ مزايا كلّ مبدع، فإن كنت شغوفاً بالرسم ستمارسه بأيّ طريقة كانت ومهما حصل. فالموهبةُ غالباً ما تكون طاغية، وهي التي تفرض الفنان على الساحة وليس تحصيله الأكاديمي.

حضرتُ، في فترةٍ لاحقة من عمري، بعض الصفوف في الجامعات المتخصصة بالفنّ التشكيلي، لأكتشف أنّ تقنيّتي ذهبت أبعد بكثير ممّا كانوا يعلّمونه في الجامعات.

• نلاحظ في لوحاتك تركيزاً على الأشياء المُهملة التي مرّ عليها الزمن، هلّا فسّرت لنا لماذا؟

- أحبّ رسم الأشياء التي أكل الدهر عليها وشرب، وأعشق فعلاً رسم ملامح المسنّ الذي نحته الزمن كجوهرةٍ عتيقة. منذ طفولتي أشعر بشغفٍ لا يوصف حيال كلّ ما هو قديم. دأبتُ على رسم كلّ ما هو عتيق، علما بأنني لم أحصر لوحاتي في هذا المجال وحده، فقد تناولت موضوعات مختلفة منها مدينة "جبيل" (بيبلوس) مسقط رأسي، ولكن صيتي ذاع خصوصاً لرسمي البيوت والسيارات القديمة، لا سيّما الشبابيك بخشبها المهترئ و"طلائها" المقشور وحديدها الصدئ.

اشتهرتُ بشُرفاتي ونوافدي التي تحمل قصص أناس هجروا وطنهم الى بلاد الغربة. أحبّ تلك الشبابيك والبلاكين المنسيّة والمهملة، فهي تحكي الكثير عن زمنٍ ولّى وتُجسّد الحنين الصارخ الى دفء الوطن. أنا ابنُ عائلةٍ متواضعة بسيطة وعانيتُ بدوري مثل تلك الشبابيك العتيقة المهجورة نوعا من اللامبالاة أو الإهمال الاجتماعي. ولعلّني أردتُ عبر تلك اللوحات تسليط الضوء على جوهر كل ما هو مهمَل وجماله، فقيمة الأشياء المنسية هذه أهم بكثير ممّا نعتقد، لأنّها تحمل في حناياها معاني ورموزا مبطنة كثيرة، قوامها الحنين الى تراب الوطن والطفولة.

تميّز ومعارض

• بمن تأثرت من الفنانين التشكيليين؟

- لم أتأثر بأي فنانٍ معاصرٍ بصراحة، علما بأنني أقدّر كبار الفنانين التشكيليين وأجلّهم. من يبهرني فعلا هو عمالقة الفنانين القدامى. فحين زرتُ المتاحف العالمية شعرتُ باندهاشٍ كبير ترك فيّ أثراً بالغاً. لا يسع المرء إلا أن ينبهر بلوحات متحف "اللوفر" الفرنسي مثلا والمنحوتات فيه، أما اللوحات الجديدة فلم أتأثر بها بالقدر نفسه. وأؤكد هنا أن مدينة جبيل هي من قولبت مسيرتي كتشكيليّ، فأنا متيّم بلغة أحجارها وهياكلها وشوارعها القديمة وهندستها المعمارية الساحرة. لا يسعك إلا أن تلمس هذا التأثير البالغ حين تقع عيناك على لوحاتي.

• ما الذي يميّزك عن غيرك كفنانٍ تشكيلي؟

- حين أُطلقت عليّ صفة "الرسام التشكيلي" كنتُ في الرابعة والعشرين من عمري، وكنتُ ألمح الدهشة على وجوه الناس لدى رؤيتهم لأعمالي. دفعني الأمر آنذاك الى الإصرار على التميّز، وليس السير في ظلّ أحدٍ أو التشبّه به. أردتُ تكوين شخصيتي الفريدة من خلال تقنيةٍ خاصة بي، فبات الناس عند مرورهم أمام لوحاتي يعرفون فورا أنّها من توقيعي. وأعطتني تقنيّتي هذه قيمةً مضافةً حتى على الصعيد العالمي.

ما يميّزني فعلا هو أنّني أرسم لوحاتي بالكاتر والدبابيس والمسامير وليس بالريشة، كما هو متعارف عليه، والأمرُ أشبه بالنحت بالألوان الزيتية على القماش.

• هل تعني لك المشاركة في معارض عالمية؟

- بالنسبة إليّ لا تعني لي هذه المشاركات شيئاً كثيراً. شاركتُ طبعاً في معارض عالمية في باريس ودبي وأميركا وكندا وفنزويلا، ولكنني لا أبالغ في نظرتي إليها. نعيشُ في زمنٍ نستطيع فيه التنقّل بسرعةٍ من بلدٍ الى آخر، وقد يتحمّس المرء للتجربة طبعاً، لكن الأمور هذه كلّها ليست أهمّ الأشياء في نظري، فأنا أؤمن بأنّ من عنده بصمةً مميّزة في الفن لا بد أن يظهرها الى العلن بشكلٍ صارخ، والدليل القاطع من ذكرتهم آنفاً من كبار الرسامين الذين أبهروني في المعارض العالمية.

ما كان هؤلاء يملكون الوسائل التقنية المتوافرة حالياً مثلاً، لكن ها أنا اليوم، وبعد أكثر من 500 سنة، أتحدث عن هؤلاء دون سواهم بانبهار ودهشة وبعد مضيّ آلاف السنوات على غيابهم.

• ماذا يعني لك الانفتاح على البلدان الأخرى؟

- أوروبا أكثر البلدان تذوقا واهتماماً بالفنون. والانفتاح على الحضارات الأخرى يعني لي الكثير، وخصوصا محيطي العربي، وأنا موجود في دبي فنيا منذ عام 2000 ولا شكّ في أنّ في الكويت عددا لا يُستهان به مِن مُتذوقي الفنّ، وطبعا أتمنى إطلاعهم على أعمالي، وإن قُدّر لي عرض لوحاتي في الكويت يوما ما لن أتردّد. أودّ أن يصل فنّي الى الجنسيات المختلفة على تنوّعها، فما من أمرٍ يسرّني أكثر من أسمع أنّ عربياً أو أميركياً أو يابانياً أو إسبانياً رأى في لوحاتي باب بيته، ولمح فيها شيئاً من طفولته.

• ماذا تعني لك الجوائز؟

- بالنسبة إليّ، كلُّ تسليط للأضواء سواء عبر اللقاءات الصحافية، أو المقابلات التلفزيونية وما شابه أمرٌ مهم معنوياً، فكل هذه الأمور تعطي الفنان دفعا وتمدّه بشعورٍ أكيد بأنّ عمله يلقى الترحيب المطلوب.

لم أتوسّل مرةً أي مقابلة من أيّ وسيلة إعلامية أو صحافيّ، أو جائزةً من أي طرفٍ كان. يُسعدني كلُّ نشاط تكريميّ طبعا، ولبنان مميّز في الشرق من هذه الناحية، وحين تسلمت جائزة من "البياف" شعرتُ بفرحٍ شديد، لكنني لا أخفي سرّاً إن قلتُ إنني أطمح الى تكريمٍ من جهة رسمية، خصوصا أنّ الدولة مقصّرة في هذا المجال، فأنا فنان لديه أكثر من ثمانية آلاف لوحة، معظمها متّسم بالروح اللبنانية، ولا شك في أنني عبر الزمن سأعطي بلدي أكثر بكثيرٍ ممّا أخذتُ منه. ليس أحلى مِن أن أُكرَّم من المرجعيات الرسمية في بلدي، وبأن أشعر بأنّي رفعتُ جبينهم عالياً.

• ماذا تعني لك وسائل التواصل الاجتماعي وسبل التسويق الحديث؟

- شخصياً، لا أبيع لوحاتي "أونلاين"، لكنني مقتنع بضرورة رؤية الناس أعمالي، وذلك ممكن بفضل وسائل التواصل هذه التي تساعدني على الانتشار خارج البقعة الجغرافية التي أسكن فيها ومن دون أي ضوابط وبسرعةٍ فائقة وعبر العالم.

وليس هدفي من عرض لوحاتي تجارياً، بل هو لتعريف الناس على أعمالي وأتلقى يومياً مئات الرسائل التشجيعيّة وطلباتٍ من مختلف أصقاع العالم، وخصوصاً من مغتربين يعتبرون أنني أبثُّ فيهم روح الوطن، وأرجعهم بلوحاتي الى ترابه، فهل أحلى من وصفٍ كهذا؟

التحصيل الأكاديمي لا يشكّل اندفاعةً حتمية نحو الاحتراف

أتمنّى إطلاع متذوقي الفنّ في الكويت على أعمالي
back to top