تنوير : دين التطرف والإرهاب

نشر في 21-03-2019
آخر تحديث 21-03-2019 | 00:05
 د. أيمن بكر من تسطيح الأمور أن يتم ربط التطرف والإرهاب بدين معين، أو منظومة أفكار واحدة أيا كان مصدرها؛ فالأديان مثلها مثل منظومات الأفكار تشكل مساحة واسعة للتأويل والتأويل المفرط. وعلى الباحث في أسباب التطرف المؤدي إلى العنف أن يبدأ من الثقافة ككل: البيئة الاجتماعية، وظروف التعليم، والعادات والتقاليد، وسياسات الهوية، والنمط الاقتصادي وغير ذلك من مكونات الثقافة.

ما سبق تمهيد سريع لتناول مجزرة نيوزيلندا التي كان ضحاياها عشرات الأشخاص الذين تم نحرهم على الهوية بلا أي اعتبار لإنسانيتهم والمآسي التي سيخلفها الموت لدى كل شخص منهم ومدى الخسارة الممكنة للعالم بقتلهم... الخ. القتل هنا كان تعبيرا إرهابيا عن تطرف أفرزته اللحظة التاريخية نفسها التي أفرزت داعش والقاعدة والخمير الحمر وجماعات مقاومة تحرر دول العالم الثالث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وغيرها. اللحظة التاريخية هنا ممتدة في ظني منذ الثورة الصناعية، ثم الحرب العالمية الأولى فالثانية، وهما الحربان اللتان أحسبهما قمة التطرف والإرهاب في تاريخ البشرية. مات في الحربين ما يقارب مئة مليون شخص، والسبب هو أوهام التفوق العرقي والرغبة في السيطرة على العالم ومحو الهويات الأخرى أو ابتلاعها. من ساعتها سرت عدوى التفوق العرقي ونقاء الهوية في العالم سريان النار في الهشيم، وتطور ما يسميه المفكر الهندي الأصل أرجون أبادوراي "الهويات المفترسة"، ويعرفها بأنها الهويات التي تدّعي التعبير عن هوية الأمة والأغلبية ومع هذا تشعر بتهديد من الأقليات وتسعى للحفاظ على وجودها عبر محو وإعدام تلك الأقليات. ولنفكر فيما أفرزته الرأسمالية العالمية منذ الفترة الاستعمارية: هويات مفترسة باسم التنوير ونشر قيم الحداثة الغربية تخلق في مقابلها هويات مقاومة تتحول بسرعة إلى هويات مفترسة أخرى. الكارثة مرتبطة جذريا بالرأسمالية المتوحشة التي شرعنت العنف والتطرف في سبيل فكرة الكسب والتفوق وصولا لتحقيق الهيمنة الاقتصادية، وكانت ذروة الانحدار حين تضافرت الرأسمالية المتوحشة مع النظم السياسية، ما أدى إلى وصول رجل أعمال لا علاقة له بالسياسة إلى رئاسة أكبر دولة في العالم، وانتهاجه سياسات مخيفة لا علاقة لها بأية قيمة سوى الربحية الضيقة التي لا يفهم سواها.

لقد مهد الغرب الأرض بسياساته الاقتصادية وإعلامه المنحاز الذي يلبس ثوب موضوعية زائفة، لظهور حالات التطرف باسم الهيمنة أو باسم مقاومة الهيمنة، وباسم الحفاظ على هوية الأمة ونقائها، وكل ما كان ينقص تلك الحالة المتطرفة التي خلقها انهيار القيم الرأسمالي هو منظومة فكرية تختبئ وراءها وتستخدمها قناعا سياسيا واجتماعيا ونفسيا، لا يهم نوع هذه المنظومة أهي دينية أو قومية. وما فعله المتطرف النيوزيلندي كغيره ممن يقتلون على الهوية هو أنه عبر عما غرسته الرأسمالية منذ عقود طويلة من هدم منتظم للقيم الإنسانية، وفزع من فقدان الهوية والتهاب عصبي في سبيل الهيمنة وتحقيق التفوق بأية طريقة وعلى حساب أية قيمة. نحن نعيش فترة مخيفة من تاريخ البشرية نمارس فيها التدمير باسم الرغبة في التفوق والهيمنة والأمن، فنكدس الأسلحة تمهيدا لحرب كونية أخيرة، وندمر البيئة ونستهلك مواردنا بسفه منقطع النظير.

كارثة المتطرف النيوزيلندي هي قمة جبل الجليد الذي يقبع كوحش بشع أسفل الماء بانتظار أن يطفو ويغرقنا جميعا.

back to top