الهزات الارتدادية لسقوط حلب ما زالت تزعزع المنطقة

نشر في 18-03-2019
آخر تحديث 18-03-2019 | 00:00
على غرار ما شهدناه في العراق، ستُضطر معظم الدول العربية اليوم إلى الاعتماد على التقرب السياسي والاقتصادي، والقوة اللينة، وإعادة دمج سورية تدريجياً في التكتل العربي كي تضمن حماية مصالحها.
 ذي ناشيونال تشهد العلاقات الدولية تبدلاً مستمراً، مع أن هذا التبدل قلما يكون بارزاً، إذ تخضع الأنماط الكبيرة دوماً لعملية إعادة ضبط تبقى عموماً غير ملحوظة تشمل تبدلات طفيفة متحفظة، لكننا نشهد من حين إلى آخر تغييراً جذرياً يعيد فجأة خلط الأوراق بأكلمها.

يكون هذا التغيير في بعض الحالات واضحاً، مثل اعتداءات الحادي من سبتمبر أو غزو الولايات المتحدة العراق عام 2033، ولكن في حالات أخرى، لا تتضح أهميته الكاملة إلا بعد حين.

يشكّل سقوط مناطق حلب التي سيطر عيها الثوار بيد قوات حليفة للنظام في سورية في شهر ديسمبر عام 2016 المثال الأخير في الشرق الأوسط على اهتزاز سياسي خفيف أدى على نحو مفاجئ على الأرجح إلى إعادة تموضع عدد من الصفائح التكتونية الرئيسة تحت المشهد الاستراتيجي.

في تلك المرحلة، أدرك معظم المراقبين أن هذه خطوة مهمة مثلت النهاية الفعلية لعمليات القتال الكبرى في سورية، وأشارت بالتالي إلى الانتصار الشامل الذي حققه نظام بشار الأسد وداعموه الروس والإيرانيون وحزب الله.

لكن الهزات الارتدادية جاءت قوية جداً، حتى بات من الصعب اليوم بدء الكثير من المحادثات بشأن الوقائع الاستراتيجية في الشرق الأوسط من دون القول: "بعد سقوط حلب...".

وكان تأثيرها الأكثر أهمية على الأرجح التبدل الجذري الذي شهده دور تركيا الإقليمي.

كانت أنقرة قد ابتعدت أساساً عن التزامها بتغيير النظام في دمشق وبدأت تركّز على احتواء المكاسب الكردية في شمال سورية، لكن حلب جعلت عودة تركيا عن مسارها المتبدل هذا مستحيلة عملياً.

ما عادت أنقرة منذ ذلك الحين ترى طهران خصماً رئيساً، بل عملت على تعديل مفهومها عن إيران (وعن روسيا أيضاً) لتعتبرها شريكاً ضرورياً بغية ضمان استقرار مقبول للأوضاع في سورية بعد الصراع.

عزز هذا وسرّع بروز تركيا كقوة إقليمية فاعلة وملتزمة بالكامل لها توجهها المميز الخاص، وبعد بدء مقاطعة قطر في شهر يونيو عام 2017، اتضح أن محور أنقرة-الدوحة كان يتحول إلى كتلة إقليمية ثالثة، منافساً المعسكر الموالي لإيران والمناهض لها في آن واحد.

إذاً، شكّلت حلب نقطة تحوّل حاسمة في انتقال الشرق الأوسط من منافسة ثنائية إلى ثلاثية، علماً أن هذا الواقع الجديد ساد على نحو شبه كامل، ولو بطريقة مبطنة، من المغرب إلى العراق.

ولكن بما أن مصر تعارض بشكل قاطع التوجه الموالي للإسلاميين الذي يتبناه هذا المعسكر الثالث بقيادة تركيا، خرجت القاهرة أكثر فأكثر من عزلتها التي عرقت فيها بسبب أزمتها وعادت للعمل على نطاق إقليمي أوسع.

بالإضافة إلى ذلك، في حين عملت الأطراف المنتصرة، روسيا وإيران وأنقرة، على تنظيم مؤتمرات الأستانة للتفاوض بشأن الترتيبات الضرورية كي ترسّخ مكاسبها، بلغت أنقرة وموسكو خصوصاً مستويات جديدة من التعاون.

ولكن مع دخول سورية بثبات أكبر مرحلة ما بعد الحرب، يظهر جلياً أن تركيا وروسيا تتساءلان عما إذا كانت طموحات إيران الأوسع نطاقاً في سورية ستبدأ بتقويض أهدافهما الحيوية الخاصة الأضيق في هذا البلد، أو بالأحرى متى سيحدث ذلك؟

بكلمات أخرى، قد يشير التأثير الطويل الأمد لسقوط حلب ونهاية الحرب، بخلاف ما نتوقع، إلى تراجع تدريجي على الأقل في التحالف الروسي الإيراني الذي حقق النصر في المقام الأول.

علاوة على ذلك، أدت حلب دوراً حاسماً في تقارب وجهات النظر العربية والإسرائيلية بشأن الخطر الذي تمثله إيران.

قبل هذه المرحلة، اعتبرت إسرائيل إيران عموماً خطراً نووياً، في حين ركز العرب اهتمامهم خصوصاً على سياسة إيران الإقليمية التي تزعزع الاستقرار، وطموحاتها الرامية إلى بسطها هيمنتها، ودعمها اللاعبين من غير الدول، مثل مجموعات الميليشيات.

لكن سقوط حلب أرغم إسرائيل على مواجهة نسختها الملحّة الخاصة من الخطر ذاته مع اقتراب الميليشيات الموالية لإيران وغيرها على نحو مقلق من حدودها، سعي إيران إلى إثبات نفسها كقوة مهيمنة في مرحلة ما بعد الحرب في سورية، وتحوّل حزب الله من منظمة لبنانية شبه عسكرية إلى القائد الإقليمي لشبكة الميليشيات والمجموعات الإرهابية الموالية لإيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

إذاً، ساهم الانتصار الإيراني في حلب في التقريب بين الخصوم العرب والإسرائيليين، رغم خلافاتهم الكبيرة المتواصلة بشأن حقوق الفلسطينيين، ولا شك أن هذا لا يخدم مصالح طهران.

بما أن المجموعات الإرهابية تتغذى على الحروب، والفوضى، وفشل الدول، شكّل سقوط حلب خبراً سيئاً بالنسبة إلى تنظيم "داعش" على الأمد القصير، فقد أطاح بالعقبة الأخيرة أمام الحملة الدولية المركّزة الساعية إلى تدمير "خلافته" المزعومة.

صحيح أن انتصار النظام في حلب أتاح للمجموعات التابعة لتنظيم القاعدة السيطرة على أجزاء من المعارضة السورية المسلحة المتبقية تفوق ما حظي به في أي من المراحل السابقة، إلا أن هذا قد يعني في نهاية المطاف أن هذا التنظيم الإرهابي سيُرغَم عموماً على الخروج من سورية.

ولكن بعد كل أعمال العنف العبثية، قد يواجه النظام على الأمد الطويل صعوبة كبيرة في حكم سورية بسلام وهدوء، وإذا عجز عن ذلك ولم يتوصل إلى طريقة للتصالح مع الكثير من مواطنيه، فقد تعود المجموعات الإرهابية، مثل داعش، بقوة وشراسة.

بالإضافة إلى ذلك، أطلق سقوط حلب، بإشارته إلى نهاية الحرب السورية، سلسلة من الجهود العربية المتواصلة التي تسعى إلى استئناف التعامل مع سورية، وقد تجلت هذه الجهود أخيراً بشكل واضح من خلال إعادة فتح السفارة الإماراتية في دمشق.

على غرار ما شهدناه في العراق، ستُضطر معظم الدول العربية اليوم إلى الاعتماد على التقرب السياسي والاقتصادي، والقوة اللينة، وإعادة دمج سورية تدريجياً في التكتل العربي كي تضمن حماية مصالحها.

ما هذه سوى عدد قليل من التبدلات الكبيرة التي أفضى إليها سقوط حلب أو سرّعها بقوة، إلا أنها تثبت بشكل حاسم أن هذا السقوط شكّل بمرور الوقت نقطة تحول تاريخية أكيدة في الشرق الأوسط.

* حسين إيبش

* «ذي ناشيونال»

الانتصار الإيراني في حلب ساهم في التقريب بين الخصوم العرب والإسرائيليين رغم خلافاتهم الكبيرة

سقوط حلب في ديسمبر 2016 بيد قوات حليفة للنظام يشكّل المثال الأخير في الشرق الأوسط على اهتزاز سياسي خفيف
back to top