ساعة النجمة (2)

نشر في 11-03-2019
آخر تحديث 11-03-2019 | 00:05
 فوزية شويش السالم في هذا الجزء سأكتب عن الرسم والنحت العبقري لشخصية فتاة الآلة الطابعة الفقيرة الآتية من منطقة "السرتون"، أكثر مناطق البرازيل بؤساً.

عبقرية كاتبة الرواية تتجلى في التلبّس والتقمص لفكر الفتاة، فهي لم تكتف برسم صورتها من الخارج، وطريقتها في التعامل والتفاعل والكلام، بل تماهت بعقل الفتاة وبردود أفعالها ورؤيتها لنفسها وللعالم بطريقة فذة عبقرية، رسمت إنسانة فقيرة هامشية أميّة جاهلة بريئة وغشيمة بشكل فادح يجرح قلب القارئ بسكين شفقة لا ترحم، فتاة يتيمة ربتها خالة بمفاهيم غريبة قاسية، وصورة غير مفهومة عن الواقع الذي يجب أن تفهمه وتتعايش معه.

"لم تكن تلك الفتاة تعرف من هي، مثل جرو لا يدرك أنه جرو، وهكذا فهي لم تكن تشعر بالتعاسة، الشيء الوحيد الذي تريده أن تكون حية. لم تعرف لماذا ولم تتساءل عن ذلك، من يدري، ربما اعتقدت أن ثمة مجدا صغيرا في أن تكون حيا. هي تعتقد أن الناس مجبرون على أن يكونوا سعداء، ولهذا كانت هي كذلك، قبل أن تولد أكانت فكرة؟

أكانت ميتة قبل أن تولد؟ وهل ستموت بمجرد أن تولد؟

يا لها من شريحة بطيخ رقيقة".

من جمال قوة نحت شخصية الفتاة بطلة الرواية واسمها "ماكابيا"، الذي لا تعرف معناه، أحببت أن أنقل للقارئ قدرة الكاتبة على تشخيصها واستحضارها واستنطاقها لهذه الشخصية من العدم، وتجسيدها بكل هذا الحضور المؤلم لواقع إنسانة تعيش تحت خط الصفر لمعنى الحياة: "الشبح الرقيق والمرعب لطفولة دون كرة ولا دمية، لذا اعتادت التظاهر بالركض في الممرات وراء كرة، وفي يدها دمية وهي تضحك ضحكا جما. كانت القهقهة مرعبة، لأنها تتردد في الماضي، وفقط الخيال الشرير هو الذي جاء بها إلى الزمن الحاضر". "ربما توصلت فتاة الشمال الشرقي إلى نتيجة مفادها أن الحياة مزعجة للغاية، وأن الجسد لا يسع الروح بشكل تام، وحتى في حالة روح ضحلة مثل روحها، تظن بإيمانها الكامل بالخرافات أنها لو شعرت مصادفة بطعم الحياة القوي فستتحطم في التو، التعويذة التي قد تحوّلها إلى أميرة ستمسخها إلى حيوان قبيح، فمهما كان سوء أوضاعها، فهي لا ترغب في أن تحرم منها، تريد أن تظل نفسها. تعتقد أنها ستتعرض لعقاب وخيم قد يصل إلى حد الموت، أن شعرت بطعم الحياة القوي. تدافع عن نفسها ضد الموت بالعيش في الحدود الدنيا، تنفق القليل جدا من حياتها كي لا تنضب. يوفر لها هذا الاقتصاد بعض الأمان، فمن يسقط لا ينهض مرة أخرى".

لا شيء في حياتها له معنى، تعاني جوعا مزمنا، لا تملك أي شيء من متع الحياة حتى فعل القراءة رفاهية لمن يعاني جوعا مزمنا، ومرض السل الذي لا تعالجه ولا تعرف معناه.

"ومتى كانت تستيقظ؟ عندما كانت تستيقظ لم تكن تعرف من تكون. فقط تفكر بعد وهلة برضا عن نفسها، أنا موظفة آلة كاتبة وعذراء، وأحب الكوكاكولا. فقط في حينها ترتدي زيّ نفسها، لتقضي بقية اليوم تمثّل بانصياع دور الوجود. لم تقل يوما أنا هي أنا. أعتقد أنها تظن أن ليس لها حق في ذلك. هي وليدة المصادفة. لديها ما يسمى بالحياة الداخلية ولا تعرف. تعيش من نفسها كمن يقتات على أحشائها".

مع هذا تلتقي برجل هامشي مثلها تقع في حبه، لكن طموحه يدفعه بعيدا عنها ليقع في حب زميلتها بالعمل الأكثر صحة وأكثر وعيا وذكاء منها، ويقول لها عند الفراق: "أنت يا ماكابيا شعرة في حساء، لا تفتح الشهية للأكل. آسف إن كنت قد أسأت إليك، لكنني صريح. هل أسأت إليك؟

كلاريس ليسبكتور كاتبة عبقرية ربما تتفوق على كافكا، لأن شهرته وصلت بسبب توسط أوروبا من العالم، وبسبب بُعد البرازيل وقلة الترجمات الإسبانية، إضافة إلى عمق فكر الكاتبة، كلها أسباب عملت على تأخير وصولها إلى القارئ العربي، وأظن أن تأثرها كان عميقا برواية الكاتب الألماني هيرمان هيسه "ذئب البوادي" عندما قرأتها في عمر المراهقة، وهذه من أروع وأعمق الروايات العالمية التي لها قوة خارقة في التأثير على عقل القارئ، وربما لو كنت قد قرأتها في مراهقتي، فمن المؤكد أنها كانت ستترك أثرا عميقا في حياتي، لأنها تركت بصمتها على روحي عندما قرأتها في عمر أكبر.

back to top