من يريد نظاماً كهذا؟

نشر في 07-03-2019
آخر تحديث 07-03-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر أثبتت أحداث 2011 وما بعدها في مجموعة من الدول العربية، والتي سميت "الربيع العربي"، وجود فجوات عميقة في البنية التحتية والمادية والسياسية لهذه الدول، وجملة من الاختلافات الحادة في توجهات التغيير المنشود بين هذه الدول، وفي أوساط نخبها وقواها، وبخاصة في تصورهم للنظام المنشود من تلك التحركات والثورات، والذي تمناه الكثيرون في مظاهراتهم، بأن يكون هذا النظام الجديد الوليد... "مثل أوروبا"!

ولنفترض في لحظة خيال أن مثل هذا "النظام الديمقراطي التعددي العصري"، على النمط الأوروبي الغربي، قام فعلا في مكان ما من البلدان العربية، وتم تأسيس دولة ديمقراطية حديثة، فما الذي قد يحدث؟ وما ردود فعل مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية إزاء مثل هذا النظام الديمقراطي الليبرالي الدستوري، الذي قد يدار اقتصادياً وفق مبادئ الرأسمالية والاقتصاد الحر، الذي يشبه أنظمة أوروبا؟

من المتوقع على الأرجح أن تعارض مسيرة مثل هذا النظام فوراً أو بالتدريج، ثلاث قوى أو شرائح أو تيارات على الأقل.

وقد تكون بين هذه المعارضة الرافضة قوى تنتقد اليوم الواقع العربي وتطالب بالتغيير والتحديث، وقد تعتبر نفسها ضمن "معسكر ثورة التغيير" لكنها لا تتصور ما هو مطلوب.

1- الأولى والأهم التيار الديني، ممثلا بأحزاب الإسلام السياسي الذي سيعمل المستحيل للهيمنة على عملية التغيير وتغيير مسارها نحو أهدافه، كما رأينا في مصر وتونس وليبيا وكل مكان، فهؤلاء يرون أنفسهم "مأمورين" بإقامة "دولة الشريعة"، وتحكيم الدين في الحياة السياسية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية والقانونية، أي باختصار، دكتاتورية سياسية دينية، يعتبرونها "النظام الإسلامي" الأمثل أو "دولة الخلافة" أو "الحكومة الإسلامية"، ويرى هذا التيار كما هو معروف ومجرب من كتبه وبرامجه، أن مثل هذه الدولة العصرية، الديمقراطية الليبرالية التي نتخيلها، أعظم ما يهدد أهدافهم في العالم العربي والإسلامي، وبخاصة إن نجحت هذه الدولة في تحديث مختلف أوجه الحياة، وعززت الحريات الاجتماعية والفكرية، وفتحت المجال لتغيير القوانين، وإطلاق حرية الفكر والنشر، وإحداث تحول واسع في التعليم ووضع المرأة وغير ذلك.

وهناك ما يثير كذلك التيار الديني وأحزابه في نظام كهذا يتمثل خاصة باستقلال إدارة الدولة وقوانينها عن التشريعات الدينية، وكذلك إعطاء غير المسلمين فرص المسلمين وحقوقهم نفسها في مختلف مناحي الحياة، ولا شك أن أي نظام عصري سيتبع حتماً هذين الاتجاهين، ويقع بالتالي تحت طائلة مقاطعة ومعاداة التيار الديني له، عاجلاً أو آجلاً فيحاول تغييره أو إسقاطه.

2- ثاني القوى المعترضة على هذا "النظام الديمقراطي الحديث"، القوى العسكرية والأجهزة الأمنية، وبخاصة القادة ممن أدوا، ولا يزالون، دوراً معروفاً في معظم دول العالم الثالث والدول العربية والإسلامية، وقد راقب الضباط العرب الشباب وبعين يقظة بعد الحرب العالمية الثانية منذ عام 1950 مثلاً، الصراع السياسي بين النخبة الحاكمة الجديدة، والحكام القدامى. ويقول أحد كبار الباحثين إن فشل الجيل المدني الجديد في الحلول محل الحكام السابقين وتحقيق التغيير المطلوب أدى إلى قلب الأنظمة القديمة بقوة السلاح، والمشكلة في التجربة العربية أن تدخّل العسكريين في السياسة ليس بالجديد، فمنذ القدم يقول الباحث نفسه، د. مجيد خدوري، كانت قوى الحكام تعتمد على دعامتين: الجيش ورجال الدين، فكان الحاكم يجمع بين السلطات الروحية المدنية والعسكرية، وكثيراً ما عمد قادة الجيوش إلى الإطاحة بحاكم بعد آخر حين يشتدّ ساعدهم.

وقد حاول العسكريون في بعض الانقلابات العربية تحسين أحوال الفقراء والعمال والفلاحين عن طريق إلغاء الملكية الواسعة لكبار الملاك وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وقد جرت في العالم العربي انقلابات كثيرة في نحو ثماني دول منها زادت على الثلاثين انقلاباً، وكان الهدف المعلن لكل هذه الثورات العسكرية إما إقامة "أنظمة ديمقراطية حقيقية"، كالوعود التي أعطيت في الجزائر وليبيا واليمن، أو إعادة الديمقراطية المسلوبة أو المشوهة أو الناقصة، كما حدث في سورية والعراق ومصر وسعى العسكريون في العراق وسورية إلى التعاون الفعال مع القوميين، في حين حكم رفاقهم في مصر بالتعاون مع الفئات الدينية وبتأييد بعض الليبراليين في بداية الأمر، لكن العسكريين سيطروا على المسرح فيما بعد وأزاحوا الليبراليين والقوميين، ولعل أبرز أسباب فشل العسكريين، كما يشير إليها د. خدوري، كان اعتقادهم أن الإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي الملاك على الفلاحين كاف للنهوض، "لكن سرعان ما تبين بوضوح أن تحسين الأوضاع الاقتصادية يعتمد بالدرجة الأولى على إيجاد وسائل جديدة للإنتاج الزراعي لا على مجرد توزيع أراضي الدولة أو على إعادة توزيع الأراضي التي يملكها القلة على عدد كبير من الناس".

(الاتجاهات السياسية في العالم العربي، 1972، ص 149)

ومما يخدم التوجهات الانقلابية والثورية في الثقافة العامة، عربية وغير عربية، "بطء المناهج الديمقراطية" والصراعات السياسية، وحدة المشاكل الاقتصادية وغير ذلك، وتساعد هذه الصعوبات أحياناً في وقوع "الثورات التصحيحية" التي تقودها بعض أجنحة الجماعة العسكرية الحاكمة، أو بروز شعبية البعض الآخر، وتكون الضحية بالطبع المكاسب الديمقراطية.

وقد يتظاهر العسكريون في بداية الأمر بأنهم سيسلمون الحكم للقيادات والنخب المدنية أو من عرفوا باستقامتهم وسجلهم النظيف، لكنهم في الواقع، يضيف د. خدوري، سرعان ما استولوا في التجارب العربية على الجهاز الحكومي وحكموا البلاد مباشرة، "إما لشهوتهم إلى الحكم أو لأنهم وجدوا الزعماء المدنيين عاجزين عن الحكم بطريقة مُرضية". (ص151).

3- ثالث قوى الاعتراض على الدولة الديمقراطية العصرية في العالم العربي أو الإسلامي، قد تكون أجهزة الدولة السابقة ومفرزات الفساد المالي والإدراي والجهاز الوظيفي الجرار الذي تمت توسعته بتوظيف أعداد هائلة من الموظفين الذين لم تعد الحياة الإدارية المعاصرة بحاجة إليهم، كما أن كل الدول العربية تقريباً لا تزال تقبل في جامعاتها الحكومية معظم مخرجات المرحلة الثانوية، وتغرق بهم الجامعات والكليات، وتغمض هذه الحكومات عيونها عن واقع تدهور التعليم العالي، ثم تتدخل ثانية لتقوم بتعيينم بالآلاف في هذه الإدارة أو تلك فتزداد الدولة انحداراً.

ولا تستطيع أي دولة ديمقراطية تقوم على الاقتصاد الحر والمنافسة واختيار الأفضل إلا أن تتخلص من مثل هذه العمالة، وأن تقلص مجالات "البطالة المقنعة" في مختلف الوزارات، ومن المتوقع في مثل هذه الدولة العصرية إن قامت في العالم العربي، أن تلغي عدداً من الوزارات، وتعهد بالخدمات الصحية والتعليمية والبريدية إلى الشركات المساهمة، وأن تعمد إلى تخفيض المصاريف الدفاعية وتغيير طبيعة الخدمة العسكرية وغير ذلك، وتؤدي كل هذه القرارات إلى إغضاب الكثيرين، وبخاصة كبار المسؤولين ومن يرتبط بهم في الوزارات والإدارات.

وقد يتعاون هؤلاء مع القوى الدينية كالإخوان المسلمين في مصر، أو يتحولون إلى رصيد لا ينضب في حساب خصوم النظام الجديد.

ومما يعزز شريحة الموظفين الحكوميين أو "البيرقراطية" في دولة كمصر مثلا ودول أخرى في الشرق الأوسط قِدَم هذه الفئة ودورها ونفوذها، وربما اقتبست مصر الاعتماد عليها من فرنسا التي اشتهرت بجهاز الدولة في عهدها الملكي والجمهوري.

وتقول "الموسوعة الاشتراكية"، دار الهلال في مصر، 1970، "حين جاءت الثورة الفرنسية قضت على الكادر الإداري الملكي، ولكنها ضاعفت الكادر الإداري الجديد حتى قيل إن نابليون بونابرت هو مؤسس البيروقراطية الحديثة". (ص94)

وتضيف الموسوعة أنه في فرنسا مثلا، "زاد عدد الموظفين بمقدار أربع مرات على معدل زيادة السكان خلال السنوات المئة الأخيرة"، وتدل إحصائيات 1950 المصرية أن الموظفين كانوا يمثلون 2.2% من مجموع السكان، لكنهم يلتهمون 35% من الميزانية، وقد اتفق الذين درسوا تاريخ مصر من الأجانب والمصريين، على أن البيروقراطية- أي الجهاز الوظيفي في مصر- "تلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع، ويلاحظ فوق ذلك أن تضخم الجهاز الحكومي قد أدى إلى تضخم فظيع في سكان المدن الكبيرة". (ص96).

إن نجاح النظام الجديد واستمراره بحاجة ماسة إلى تغيير شامل في تفكير وثقافة وقيم المواطنين، وإلى الابتعاد عن الاتكال على الدولة في توفير فرص العمل والخدمات، والحرص على دفع الضرائب السنوية، كما لا يمكن لنظام كهذا أن ينجح بسهولة إن استمر التكاثر السكاني بوتيرة تسبق بكثير قدرة الاقتصاد الوطني، كما هو واقع العالم العربي والإسلامي.

وقد قارنتُ أعداد السكان في مجموعة من الدول المتقدمة في إحصائيات كتاب، The World Almanac لعام 1970 وكتاب The 1990 ALmanac فوجدت في الأول عدد السكان عام 1969 ما يلي: الدنمارك أقل من 5 ملايين، فرنسا نحو 50 مليونا، إيطاليا 54 مليونا، إسبانيا 32.4 مليونا، السويد أقل من 8 ملايين، اليابان 101 مليون.

وكان عدد سكان كل من إيران 27 مليونا، وإندونيسيا 113 مليونا، والمغرب أكثر من 14 مليونا، والسودان نحو 15 مليونا، وسورية نحو 6 ملايين، وتونس 4.6 ملايين، وتركيا 33.5 مليونا، ومصر أقل من 32 مليونا، والسعودية 7 ملايين، والعراق 8.6 ملايين، والكويت 540 ألفاً، أي أكثر من نصف مليون، ولبنان أقل من 3 ملايين.

ثم طالعت إحصائيات كتاب 1990 فوجدت ما يلي: الدنمارك 5.1 ملايين بزيادة طفيفة، وفرنسا 56 مليونا- أي زيادة 6 ملايين نسمة بعد عشرين سنة، واليابان 123 مليونا، وإسبانيا 39 مليونا- زيادة نحو 7 ملايين نسمة خلال عشرين عاماً، وهي زيادات معقولة.

ونظرت في إحصائيات الكتاب عن إيران فرأيت السكان 53 مليوناً، أي أن السكان تضاعفوا، إذ كان عددهم 27 مليوناً، وإندونيسا أكثر من 184 مليوناً، وكانوا 113 مليوناً، وتضاعف سكان المغرب فصار 26 مليونا، وكان أقل من 15 مليونا، والسودان 24 مليوناً والسعودية نحو 15 مليوناً، والعراق 18 مليونا، ولبنان 3.3 ملايين، والكويت أكثر من مليونين.

وتبقى مشاكل ومعوقات أخرى أمام دولة كهذه، نتركها لفطنة القارئ خشية أن يطول المقال.

back to top