الطفل وثقافة السعادة

نشر في 06-02-2019
آخر تحديث 06-02-2019 | 00:05
 طالب الرفاعي أثبتت التحقيقات التي أُجريت مع أشخاص فازوا بجوائز اليانصيب، أو أي جوائز مالية كبيرة، أن الشعور بالسعادة الذي صاحب حصولهم على تلك الجوائز المالية كان شعوراً وقتياً، لم يدم طويلاً، وأنه ما لبث أن تبخَّر، فعادوا إلى ماضي عهدهم، بتجهمهم وسلوكهم المعروفين. فالحصول على المال أعجز بكثير من أن يخلق سلوكاً إنسانياً دائماً يشعّ بالسعادة لدى أشخاص هم بالأصل ليسوا ممن يسير على درب الابتسامة والقناعة وبالتالي السعادة.

الدراسات الحديثة في مجال "positive psychology – علم النفس الإيجابي" تؤكد أن نشأة الإنسان منذ يوم ميلاده، والظروف الأسرية التي يترعرع ويحيا فيها، واتصالها بالظرف الاجتماعي والاقتصادي والعلمي لأفراد الأسرة تترك أثراً كبيراً في نفسيته. فالطفل منذ أيامه الأولى، وكما يرضع من صدر أمه حليباً يؤمن له الاستمرار في الحياة، فإنه يرضع منها مشاعرها بتقلب نفسيتها بين ألمها وضيقها وتأففها، وسرورها وسعادتها بنشوتها. وهو في الآن نفسه يرضع كامل خصائص البيئة التي يحيا. الطفل الذي ينشأ في أسرة يعمّ أجواءها السلام والحوار الهادئ والسرور وترتفع في زوايا مكانها الضحكات، هو طفل أقدر على أن يكون سعيداً مبتهجاً في القادم من أيامه، وخلاف ذلك طفل يولد وينشأ في أسرة يسود الخلاف والصراخ والعراك أيامها، فإن هذا الطفل أكثر استعداداً للعيش بمزاج ووجه متجهمين، حتى لو كُتب له لاحقاً التمتع بمباهج الحياة.

قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الطفل الرضيع أعجز من أن يميِّز بين السعادة والحزن، وبين نبرة الصوت العصبية المحتدة والنبرة الودود. لكن، علم النفس الإيجابي يرى خلاف ذلك، وأن مرحلة الطفولة هي المرحلة الأهم في حياة أي إنسان، وأن الطفل إذا ما نشأ في أسرة متحابة، متسامحة، تعبر نسمات الابتسام والسرور والضحك أرجاء لحظاتها، فإن ذلك ينعكس تماماً على نفسيته وسلوكه، فينشأ محباً للمرح والسرور، ويكون أكثر ميلاً للحظات الفرح منه للحظات الصمت والضيق. ويمكن بسهولة تبيّن ملامح أشخاص نعرفهم، فنستدرك أن وجه فلان بشوش في كل اللحظات، بينما هناك وجوه أخرى نعرفها تلازمها مسحة الضيق والكدر والشكوى حيثما كانت وكيفما كان ظرفها.

السعادة هدف وراء كل هدف في سعي الإنسان، وبالتالي ليس المال ولا المنصب ولا البيت الجديد ولا السفر ولا اقتناء سيارة فارهة ولا ساعة أو حقيبة، كل تلك المظاهر العابرة، لا تزيد عن تقديم متعة لحظية راكضة تنتهي أحياناً حتى قبل أن يصل الإنسان بسلعته إلى باب بيته.

السعادة مقرها القلب، ومجساتها سلوك يعتاده الإنسان منذ طفولته. لذا يلزمنا مراجعة موقفنا من السعادة بوصفها ثقافة عيش، وسلوكا يصاحبنا حيثما نكون، بدءاً بابتسامة نحملها على وجوهنا، مروراً بكلمة طيبة واحترام نتوجه بهما للآخر، وانتهاء باستعداد دائم لأخذ كلمة وموقف الآخر على محمل البساطة والصدق دون الخوض في قراءة النوايا.

الأبحاث العلمية المتخصصة في علم النفس والسلوكيات تؤكد أن الإنسان حين يكون في لحظات هدوء وسرور، يكون أقدر على اتخاذ قرارات صائبة، والعكس صحيح تماماً. لذا، فمزيد من الغضب واللهث وراء اللحظة لن يصلحا أمرها، بل سيؤدي كل منهما إلى مزيد من البؤس والضيق.

السعادة ثقافة سلوك، لذا يلزم غرسها في نفوس أبنائنا، ولا يتم ذلك عبر الحديث المباشر معهم بضرورة أن يكونوا سعداء، لكن الطريقة المثلى لذلك هي أن نكون نحن قدوة في سلوكنا أمامهم. فزوج يعامل زوجته بمحبة واحترام، ويناقشها بهدوء أقدر على أن يزرع ذلك في نفسية أبنائه. والعكس صحيح، مع ملاحظة أن تأثير الأم أكثر على أبنائها، بدءا من مرحلة الرضاعة، مروراً بكل مراحل حياتهم. لذا، فإن ابتسامة وهدوءا ومسامحة ونقاشات هادئة من الأم هي البلسم الشافي لأرواح الأطفال، ووحدها تلك الخصال الطيبة ستبقى مرهماً يمرّ به الإنسان على انتفاخات آلام حياته في القادم من الزمن.

back to top