دُمْية القصيدة... أنا!

نشر في 31-01-2019
آخر تحديث 31-01-2019 | 00:04
 مسفر الدوسري أنا... لست أميراً للقصيدة، ولا أجيرها، ولست عشيقها السري الذي تتسلل تحت عباءة الليل فَرِحة بخيالاتها بتفاصيل لقاء سيجمعها معه ودفء سيسري رعشة في شهواتها المخبأة بوسائد أحلامها، ولا طليقها الذي تنتظر حكما ضده يمنحها حق حضانة أطفالهما من الكلمات والصور وأسرارهما الصغيرة.

لست شراعها الذي يهديها إلى درب المنارات في عرض بحور "الخليل" عندما تهيج وتتلاطم أمواجها، كما أني لست ضياعها الذي يرشدها إلى قاع الغرق، لتعانق حطام السفن والجماجم والتذكارات وقلائد اللؤلؤ التي غرقت آمالها في الظلمة الحالكة للقاع قبل أن تعانق جيْد غادة حسناء فاتنة الجمال.

لست أباها الذي لا تعصي له أمراً ولا تخرج عن طاعته، وتحرص على أخذ أدويته في مواعيدها، ولا صغيرها الذي تحنو عليه، وتفزّ مفزوعة من نومها في الليلة الواحدة عدة مرات لتتأكد من هدأته في منامه، وتطمئن على حرير أحلامه.

لست سقفها الذي تتقي تحت ظله الهجير، ويمنحها في ذات الوقت فضاء كافيا يشبع طموح أجنحتها، وعلوّاً يرضي باسق نخيلها، ولا أنا حصيرها الذي تفترشه على عشب الرغبات الندي، فيحُوْل بينها وبين لذة الإحساس ببرودة البلل، ويحرس قدميها الناعمتين من فضول الطين وخطواتها من جشع الشغف.

أنا لست أياً من ذلك للقصيدة، أنا فقط دُميتها التي لطالما أدمتْني، دمية أدمَنَت اللهو بها على يدي القصيدة، تماما مثلما أدمنت سيلان دمها بين يديها وأحبَّت أن تبقى دوما جرحا مفتوحا، أبوابه مشرعة لمشرطها، مستسلماً لمشيئة قسوتها أو رحمتها، تنزف بفعلها دماً أخضر حيناً، وحينا عطراً وردياً ذا شذا يجمّر الآهات، ويُعبّئ قوارير الخطايا بأطياب الصفح. دُمية عجزت دوما عن أن تعتاد إهمال القصيدة لها وقتا طويلا يتسع لذاكرة نسيان، وتضيق ذرعاً من عدم قضائها كل ما أمكنها من الوقت للعب والتسلّي بها. دُمية مكْمَن متعتها وقمة أمانيها أن تكون سلوى القصيدة، لا أن تكون القصيدة سلوتها، فتشعر حينها فقط بذاتها، وتملؤها النشوة من رأس فرحتها حتى أخمص حزنها، هذا يجعلها على يقين بأنها على قيد الحياة، وأنها ليست دمية بلا روح، أو دمية عاطلة عن العمل، أو عاجزة عن الفعل.

أحب كوني دمية بين يدي القصيدة أملأ أوقات مللها بالريش الملوّن، وأحشو أكياس فراغها بقطن الخيال، وأُشبع هوسها بممارسة الشغب والخروج عن المألوف وكسر الأطر المفترضة سلفاً والمألوفة بداهة، تشعلني متى ما ابتغت نارا تحرق بي أصابع مصنوعة من الشمع، وتغزلني صوفاً تنسج منه دفئا لأغطية العيون الباردة، حتى تخرج عن صقيعها. دمية تحتاجها القصيدة في أوقات لعبها وحين غضبها، حين تثور تنفّس من خلالي عن احتدامها وحنقها، فترميني بكل قوتها على سطح الأرض، وأصبح أشلاء مبعثرة، فإذا ما هدأت بكت عليَّ بحرقة، وأعادت تجميعي، ثم احتضنتني بقوة بكل حب، وشاركتني سريرها عندما تخلد للنوم.

back to top