دولة دينية... بامتياز! (2-2)

نشر في 25-01-2019
آخر تحديث 25-01-2019 | 00:06
 د. محمد بن عصّام السبيعي الحجة الأخرى تنطلق من فلسفة القانون، إلا أنها لا تلبث تتردى في مهاوي السفسطة، التي لا تضيف معرفة بل تنشر ضبابية تعمي صاحبها عن مقصده، فهي تغالي في الدور الوظيفي للدستور، بصفته إعلانا لصفة المتحد الاجتماعي وكيفية سياسته. فمؤدى هذه الحجة أنه بما أن هذه الوثيقة تحمل بين دفتيها تعريفا للموضوع ورسما لهيكل الدولة وسياستها للمجتمع، ومنه إلى النص على منزلة للدين، كبرت أو صغرت، وبما أن هذه الوثيقة من وضع إنسان، أي لم يوحِ بها مصدر ماورائي، فبذلك تكون علمانية الدولة تحصيل حاصل. الحق أن مثل هذا القول لا يغاير واقع الأمور فحسب، بل يعيد إنتاج إشكالية الفهم اللاتاريخي كما هي سمة التعامل مع كثير من عناصر التراث في الفكر العربي. فهو فهم مغاير للواقع ومناف للسياق التاريخي، وذلك لخطل منطلقاته من أكثر من وجه. الوجه الأول تصوره بأن وثيقة الدستور التي تعكس فهم شعب لذاته، يبتدع واقعا مغايرا. ففي الباب الأول يقرر الدستور الكويتي الواقع المدرك حتى حينه. فهنا يأتي منطوق النص على وجه التحديد تقريرا لحقائق قبلية أو سابقة للدستور ذاته، ومنها ما يخص الدين. فبزوغ الإسلام وتمام رسالته واعتناق هذا الشعب له، كل ذلك سابق على قيام الدولة ووضع دستورها، واستطرادا فإن الدستور لم يكسب الكويتيين هويتهم العربية، ولم يلقنهم لغة الضاد أو يحث الدولة على البدء بذلك عوضا عن لغة أخرى، بل أكد واقع الحال بنصه في المادة الأولى على الهوية العربية لهذا الشعب، وجعل العربية لغة رسمية للدولة الوليدة، المادة الثالثة. وبما أن الدولة قد ظهرت من رحم الإمارة، فنحو ذلك النص في المادة الرابعة على بقاء حكم الدولة في ذرية مبارك الصباح. ولعل الاستثناء الوحيد من تقرير ما كان سائدا على أرض الواقع، أي الملمح الجديد الذي يلحقه الدستور بالنظام السياسي يكمن في المادة السادسة حيث يقضي النص بالنهج الديمقراطي لذلك النظام. لكن آلية الديمقراطية المعمول بها في أغلب دول العالم على اختلاف مشاربها الدينية والأيديولوجية، ومنها أنظمة إسلامية، ليست بالذي يتضارب مع المادة الثانية، بل إنه يوسع دائرة المشاركة المقصورة في التراث الإسلامي على أهل الحل والعقد لتشمل الجماعة المسلمة قاطبة.

وعليه فمن خطل الفهم أيضا التصور بأن نصوص الدين تحكم مباشرة بما يوحى به، دون واسطة من بشر تعلن صراحة أن هذا الوحي هو المرجع، ومثلما قد تكون هذه الواسطة في البداية كلمة شفهية فهي في أغلب الأحوال وثيقة مدونة، وكلاهما دستور. فبدءا من الصحيفة التي علقها رسول الإسلام لتنظيم شؤون المدينة، وخطابه "لقد تركت فيكم..."، وانتهاء بدول دينية معاصرة تقتني مثل تلك الوثائق، التي قد تسمى دستورا أو نظاما أساسيا كما هو الحال في جمهورية إيران الإسلامية والعربية السعودية، ففي كل ذلك يُلاحظ الدور الوسيط للإنسان في اختيار قانون السماء. أما أن تهبط الشرائع دون وساطة فغريب عن تاريخ الأديان وعن فلسفتها أيضا، وفي هذا السياق تستبين أيضا وظيفة الدستور الكويتي في إعلان ما أعلنه في المادة الثانية من أن دين الدولة الإسلام.

أما مبلغ السفسطة فيكون حين يجري تجاوز الدور الوظيفي والوحيد للدستور ليسبغ عليه قيمة متعالية، فتنقلب الأصوات الناقدة للمقدسات داعية قداسة، فتصبح تلك الوثيقة ذات فضل وكل ما سواها مما ورد بين دفتيها، ومنها الإسلام وشرعه، مفضولا أو ذا قيمة ثانوية حيال الدستور، ولا نعلم ما ستكون قيمة الدستور حين يضحي كل ما به ثانويا، ومنه أيضا النص على تقلد مسند الإمارة ومن يتولاها، أي كمن يقول إن الدستور هو من بوّأ ذرية مبارك حكم الدولة، هذا إذا ما استرسلنا في إعمال المنطق ذاته! لكن مثل هذا القول لا يصمد أمام استتباعاته، فالدستور ذاته قد جاء بمشيئة أميرية وصدق عليه بالإرادة ذاتها، كما قد توافر على وضعه مجلس تأسيسي، وعمل معهم فريق من الخبراء، أيكون هؤلاء وسواهم مما لم يتسن ذكره، بحسب المنطق ذاته، ذوي فضل على الدستور، فلولاهم لم يكن، أليس كذلك؟ أو أن المحاجة محض سفسطة ليس إلا؟!

هذه الدولة تبدو لي بالنظر إلى ما سبق وإلى اعتبارات عديدة أخرى، دولة دينية، أو أقرب لمثل هذا التصنيف. قد تختلف الآراء وتتفاوت في مدى ذلك، كلا هي ليست بالثيوقراطية، حيث يتولى رجال الدين الحكم، كما في إيران أو الفاتيكان، أما أن تكون دولة علمانية، بمعنى متخلصة من المرجعية الدينية، ومتحررة من الدين في صنع سياستها فلا أظن أن لمثل ذلك أساسا من واقع أو نص قانون. تلك حقيقة قد تغضب البعض!

back to top