النهضة الثقافية الأمازيغية

نشر في 24-01-2019
آخر تحديث 24-01-2019 | 00:00
 معهد واشنطن أمضى شعب الأمازيغ في شمال إفريقيا عقودا طويلة يطالب بالاعتراف بهويته الثقافية في منطقة عربية بغالبها، فناشطو الأمازيغ يخوضون منذ سنوات الحرب ضد السياسات القمعية، محاولين في الوقت نفسه المناداة بخطوات تساهم في الحفاظ على الهوية الأمازيغية، ولكن بالرغم من النجاحات الأخيرة التي أحُرزت بهذا الشأن، فقد يتعذّر على الناشطين الأمازيغ أن يتخطوا في المستقبل القريب حصيلة قرونٍ طويلة من التهميش.

شهدت سبعينيات القرن العشرين أولى محاولات المطالبة العلنية بحقوق الأمازيغ والاعتراف بالتراث الأمازيغي، حيث انبثقت هذه المساعي في الجزائر ردّاً على التعريب العدائي الذي مارسته "جبهة التحرير الوطني" بحظر استخدام اللغات الأمازيغية على اختلافها، ومنع أنشطة المقاتلين الأمازيغ ككل، وبعد سنوات من القمع بدأ الناشطون الأمازيغ يشجعون التعبير العلني الصريح عن الهوية الأمازيغية، فأصدر الفنان الموسيقي حميد شريات، المعروف باسمه الفني إيدير، ألبوما تحت عنوان "أفافا إينوفا" كان أول عمل موسيقي يصدر على مستوى عالمي باللغة الأمازيغية وأدى إلى ازدهار الموسيقى الأمازيغية في مختلف أنحاء شمال إفريقيا ليستتبع ذلك إعادة إحياء الأدب الأمازيغي. وكان من شأن هذا التجدد الثقافي أن مهّد الطريق أمام الربيع الأمازيغي في الجزائر: ففي العاشر من مارس 1980، منعت السلطات مؤتمرا للناشط الأمازيغي مولود معمري في جامعة حسناوة الواقعة في تيزي وزو، فأطلقت خطوة إلغاء الفعالية موجة احتجاجات أسفرت عن اعتقالات جماعية للناشطين الأمازيغ المعارضين.

وأخيرا، تمكّنت الحركة الأمازيغية في عام 1994 من إحراز تقدم في المغرب بعد قيام الشرطة باعتقال متظاهرين يحملون لافتةً مكتوبة باللغة الأمازيغية، إذ أثار هذا العمل سخطا واسعا في المغرب، كما تابعت وسائل الإعلام المغربية محاكمات الناشطين عن كثب في أعقاب الاعتقالات، مما أتاح للحركة حشد التأييد والدعم لحقوق الأمازيغ. واليوم، يشهد "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" تراجعا تاما، فقد استخدمه النظام المغربي بشكل مكثف على مر السنوات لإخضاع الأمازيغ وإبعاد الأصوات الصادحة التي تطالب بالاعتراف بالحقوق الثقافية الأمازيغية اعترافًا كاملاً. كما أن معظم العاملين فيه ينتمون إلى "الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي" AMREC)، وهم أشخاصٌ استخدمهم النظام المغربي منذ البداية ليكونوا الذراع الأمازيغي له من أجل ترسيخ نظرته الخاصة عن الثقافة الأمازيغية: خانعة وتبعية.

ومع تنامي النشاط الثقافي الأمازيغي تنامى أيضا الوجود الأمازيغي في الحياة السياسية، وفي حين حُلّت الكثير من الأحزاب السياسية الأمازيغية التي ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لأن الدستور المغربي يحظر تشكيل أحزاب سياسية على أساس إثني، وجد بعضها طريقةً للتحايل على الحظر الإثني هذا. ومثالٌ على ذلك حزب "الحركة الشعبية" الذي يعتبر من أكبر أحزاب البرلمان المغربي، فمع أن هذا الحزب لا يحصر خدماته وأعماله بالأمازيغ، إلا أن صلته كبيرة بالمجتمع الأمازيغي، وبالفعل فإن هذا الحزب المؤسس عام 1957 يعمل عن كثب مع الناشطين الأمازيغ كما أنه حشد الدعم للحركة الأمازيغية في البلاد كلها، مطالبا بالاعتراف بالممارسات الثقافية الأمازيغية وحماية حقوق الأمازيغ.

وفي عام 2011 عزّزت أحداث "الربيع العربي" المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نتجت عن الربيع الأمازيغي ومكّنت الأمازيغ من كسب دفعٍ سياسي، وفي شهر فبراير من العام نفسه أنشأ متظاهرون من الأمازيغ والنقابات العمالية والإسلاميين تحالفا كان مستبعداً ودعا إلى توسيع نطاق الحريات في المغرب، وفي النهاية أدّى توسع التأييد الذي لقيته مطالب هذا التحالف إلى صياغة دستور جديد اعترف باللغة الأمازيغية لغةً رسمية في المغرب وساوى بين الهوية الأمازيغية والهوية الوطنية المغربية.

كانت حركة إحياء الثقافة الأمازيغية في بدايتها حركةً شعبية قبل أن تكتسب تدريجا نفوذا سياسيا متناميا على مر السنوات، وبما أن الحركة لا تزال تستقطب اهتماما وطنيا ودوليا على حدٍّ سواء، بات يصعب أكثر فأكثر على حكومات شمال إفريقيا تجاهل مطالبها.

وقد نجح شعب الأمازيغ في المغرب العربي في اكتساب قدر كبير من الاعتراف وخصوصا في المغرب والجزائر، والوضع يتحسن بشكل ملحوظ في تونس وليبيا، علما أن الخطاب السياسي المهيمن منذ بضع سنوات فقط كان يصوّر المغرب العربي على أنه عربيٌ بحت في اللغة والثقافة.

فضلاً عن ذلك، يسود الاعتقاد بأن الحكومة المغربية ستُدرج رأس السنة الأمازيغية على قائمة العُطل الرسمية الوطنية في عام 2019 وتحذف صفة "العربي" من تسمية وكالتها الرسمية "وكالة المغرب العربي للأنباء"، ومن الممكن أيضا أن تعمد الحكومة إلى تسمية الشوارع والجادّات والمؤسسات تيمّنا بشخصيات أمازيغية معروفة، وفي الجزائر أيضا، يجري السعي للاعتراف بالثقافة الأمازيغية على قدمٍ وساق، ومن المؤكد أن يستمر في عام 2019. وثمة أمل في أن تشكل هذه المكاسب الإضافية حافزا للتغيير في تونس وليبيا أيضا. أما فيما يخص التبعات السياسية، فالوضع الراهن أشبه بتجربة ممتعة مشوبة بالألم، فإذا أرادت دول شمال إفريقيا تحقيق السلام مع سكانها الأمازيغ، فلن يكفي أن تتقبّل الثقافة الأمازيغية باعتبارها تابعة للأمازيغ، بل عليها أن تتقبلها باعتبارها جزءا من ثقافة البلد أيضا، ولا تزال فكرة الهوية المتداخلة هذه جديدةً إنما باتت مزروعة في الأذهان، وإذا أمكن سد الفجوة بين النظرة الحكومية والحراك الفردي، أصبح بالإمكان التوصل إلى القبول والمعاملة المنصفة.

وفي الوقت الراهن يركّز المقاتلون والناشطون الأمازيغ على كسب اعتراف أكبر بالوجود الثقافي الأمازيغي من السياسيين، مما يضغط على الحكومات لإطلاق تسمية "المغرب الكبير" عوضا عن "المغرب العربي" على منطقة شمال إفريقيا.

بالتالي، فإن الحركة السياسية التي أطلقها الربيع الأمازيغي أوجدت، بل دفعت قدما بآثار ثقافية مهمة نتجت عن ترسيخ الهوية الأمازيغية، وهذا ما أدى إلى التطورات الإيجابية المتمثلة بـ"المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" في المغرب وتأسيس قنوات إذاعية وإخبارية أمازيغية وفنون جميلة أمازيغية من مسرح وأدب ورقص، إلى جانب الاعتراف الكامل باللغة والحضارة الأمازيغية في الجزائر.

ويشار إلى أن دمج اللغة الأمازيغية وغيرها من جوانب الهوية الأمازيغية يعود إلى أولى محاولات الاستعمار المؤرخة التي قام بها الفينيقيون، وقد صمدت على هذا المنوال حتى يومنا الحاضر، لذلك من المهم الاحتفاء بالتقدير الذي تلقاه الفنون الأمازيغية في الثقافة الشعبية اليوم بالتزامن مع التطورات السياسية الإيجابية، لأن التفاعل بين الجانبين دينامي.

* محمد اشتاتو

* «واشنطن إنستيتوت»

back to top