مسارات محتملة للانتفاضة السودانية

نشر في 23-01-2019
آخر تحديث 23-01-2019 | 00:00
 معهد واشنطن رغم التجاهل الإعلامي لانتفاضة السودان ورغم القمع الأمني الذي تُواجه به من نظام البشير، فإن الهبة الشعبية تزداد يوماً بعد يوم، حتى وصلت تقريبا إلى كل مدن البلاد، وهيمن هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" على كل التظاهرات، مما يقلق الخرطوم وعواصم أخرى، والمؤكد أن في حال حدوث سقوط نظام البشير سيكون له تبعات كثيرة تمس مصالح بلدان عدة في الإقليم، وهي مصالح يعتبر "البشير" الضامن الأول لها، وبغض النظر عما إذا كانت تلك المخاوف الإقليمية ومثابرة البشير في مواجهة الضغط العام المتزايد ستنجح أم لا، فإن مستقبل الحكومة السودانية ما زال أبعد ما يكون عن الوضوح.

فالصعوبات الاقتصادية التي يواجهها كثير من الشعب السوداني شكّلت الدافع الرئيس وراء تلك الاحتجاجات، إذ ألقى المحتجون اللوم على الإجراءات الحكومية التي تسببت بكثير من المصاعب الاقتصادية بما في ذلك القرار الذي اتخذه البشير في أكتوبر الماضي بتحرير سعر الصرف، تزامناً مع حديثه عن رفع الدعم الحكومي للوقود، وما تلا ذلك من أزمة في البنزين والخبز، مما أسهم في خروج المحتجين إلى الشارع.

فالشعب الذي يعيش 50% منه تحت خط الفقر شارك سابقاً في عدّة تظاهرات احتجاجاً على الظروف الاقتصادية الصعبة، أبرزها الاحتجاجات الكبرى التي اندلعت في عام 2013، وانطلقت التظاهرات الحالية من مدينة عطبرة العمالية في التاسع عشر من ديسمبر للتنديد بأزمة الغذاء والوقود وانعدام السيولة، ولاقت تلك الاحتجاجات صدى واسعاً وطنياً منتقلةً إلى مدنِ أخرى حتى بلغت العاصمة الخرطوم.

نظام البشير تعامل معها بالطريقة المعتادة: قمع في الشوارع ومصادرة للصحف واتهام دائم بوجود مؤامرات خارجية، مما زاد الأمور تعقيداً، وفشلت قوى المعارضة حتى الآن في استثمار الانتفاضة الشعبية وتحويلها إلى ثورة حقيقية تطيح بالنظام.

فالمعارضة منقسمة ومتناحرة، فالعلاقة بين التحالفين المعارضين الأكبر في البلاد (تحالف نداء السودان) و(تحالف قوى الإجماع الوطني) منهارة، ومن غير المرجح أن تتمكن حركات المعارضة الرسمية السودانية من العمل معاً لجمع الاحتجاجات في جبهة موحدة ضد النظام الحالي، خصوصاً في ظل خلافات حول قضايا مثل جنوب السودان ومشاركة أحزاب المعارضة في الحكومة الحالية، ولكن ذلك لم يمنع لاختلافات قادة المعارضة من دعم الاحتجاجات من حيث المبدأ: فقد طالب حزب نداء السودان، على سبيل المثال صراحةً بتنحي البشير.

وتشير تعقيدات الملف السوداني إلى مفترق طرق قد يقود البلاد إلى أحد السيناريوهات التالية:

1- احتمال تحرك أحد الجنرالات للإطاحة بالبشير عبر انقلاب عسكري، وهناك اسمان مطروحان: الأول الجنرال "كمال عبد المعروف" رئيس الأركان، أما الثاني فهو الجنرال "صلاح قوش" رئيس جهاز المخابرات الذي ترأس جهاز الأمن خمس سنوات، قبل أن يطيح به البشير من منصبه ويلقيه في السجن على خلفية اتهامه بالضلوع في محاولة الانقلاب. وفي حين فاجأ الرئيس الجميع بإعادة قوش إلى رئاسة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، عام 2018 إلا أنّ ولاء الأخير للرئيس لن يمنعه من المشاركة في أيّ محاولة انقلابية مستقبلية في حال توافرت الظروف المناسبة لذلك.

لو تحرك أحد الرجلين فالأرجح أنّنا لن نشهد سيناريو شبيهاً بـ"سوار الذهب" الذي سلم السلطة للمدنيين، عقب انقلاب عام 1985، وبعد الإشراف على الانتخابات الديمقراطية، بل الأغلب أننا سنشهد نسخة ثانية من تجربة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

2- تسليم البشير السلطة الى حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم ويتولى أحد قياداته الحكم لفترة انتقالية لحين ترتيب الأوراق، والمرشح الأول للقيام بهذا الدور هو "معتز موسى" رئيس الحكومة نظراً لقرابته وقربه من البشير، ولا يعقل أن يسلم البشير السلطة للأجنحة المعارضة داخل الحزب الحاكم سواء جناح "علي عثمان"، النائب السابق للرئيس، أو جناح "نافع علي نافع" المؤسس لجهاز المخابرات والأمن الوطني، فكلاهما غير موثوق به من البشير لضمان خروج آمن له ولأسرته.

وهذا السيناريو مرتبط بالظروف الإقليمية والدولية، فلكي يتنحى البشير طوعاً يجب أن يكون هناك قرار دولي بذلك، وحتى الآن لا يوجد قرار دولي بحتمية رحيله، نظراً إلى الدعم الدولي الضمني الذي يتمتع به النظام السوداني حالياً، ونظراً إلى شخصية البشير نفسه.

3- على الرغم من الضغوط الداخلية المطالبة باستقالة البشير، فالرجل ينكر حتى هذه اللحظة وجود أي مشكلة أصلاً، ويتعامل مع الأحداث بصفتها مؤامرة من قلّةٍ مندسة وأنّه قادر على تجاوزها بسهولةٍ فائقة، فهو يراهن هنا على تفتيت القوى المعارضة، وعدم قدرتها على الحشد لقيام عصيان مدني عام فذلك يعني شلّ الدولة وصولاً الى نقطة الصفر.

من جانبها تراهن المعارضة على أن عوامل غضب الناس مازالت متوافرة، وبالتالي حتى لو خفتت تلك الانتفاضة فلا بدّ من أن يشتدّ أوجها مجدداً مرة أخرى، ويؤمن قياداتها أنه في حال الوصول إلى نقطة الصفر وشلل الدولة التام فلن يكون أمام البشير إلا الرحيل قسراً.

تزداد تعقيدات المشهد السوداني يوماً بعد يوم، والكرة الآن في ملعب الشارع، الذي يتحرك بدون قيادة حقيقية من قوى المعارضة التقليدية، وسواء نجح البشير في الالتفاف حولها أو نجحت هي في الإطاحة به، تشير المؤشرات الأولية إلى أن بقاءه في السلطة أصبح غير مضمون، وأنه حتى إن تجاوز تلك الفورة الشعبية، فمن الصعب جدا تعديل الدستور في 2020 والسماح له بالبقاء في السلطة لفترة إضافية، ومما لا لبس فيه أن الاحتجاجات الحالية ستؤثر من دون أدنى شكّ في فترة بقاء البشير في السلطة بطريقةٍ أو بأخرى.

* ماجد عاطف

* «واشنطن إنستيتوت»

back to top