وجهة نظر : التقاعد المبكر... تعثر أكتواري

نشر في 09-01-2019
آخر تحديث 09-01-2019 | 00:30
 د. عباس المجرن على مدى أشهر من التجاذب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بشأن تعديل بعض أحكام قانون التأمينات الاجتماعية، تأرجح موقف الإدارة الحكومية بخصوص هذه التعديلات، وصولاً إلى التوافق النسبي مع المقترح الأخير للجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الأمة بخصوص تكلفة التقاعد الاختياري المبكر قبل موعد استحقاق المعاش التقاعدي المنصوص عليه في القانون الحالي (وهو 55 عاماً للرجل و50 عاماً للمرأة).

بداية ينبغي التأكيد على أن حق التقاعد المبكر متاح في معظم أنظمة التقاعد المعمول بها في البلدان المتقدمة والنامية، وتحدد غالبية الأنظمة عدداً محدوداً من السنوات التي يمكن للمؤمن عليه أن يتقاعد خلالها قبل موعد الاستحقاق، وهي لا تزيد في تلك النظم على سنتين إلى خمس سنوات.

ومن البديهي أن أي نظام للتقاعد يأخذ في اعتباره خصوصية الحالة الاقتصادية والاجتماعية للدولة وطبيعة سوق العمل بها، وهذا أحد مبررات الاختلاف بين نظم التقاعد المعمول بها في العالم. ولكن من المؤكد أيضاً أن نظم التقاعد تكون على الدوام محكومة بضمان التوازن بين قدرة صناديقها على دفع استحقاقات المعاشات التقاعدية وبين كفاية مساهمات المشاركين في تمويل هذه الصناديق.

ونظراً لاختلاف معدلات مساهمات الممولين ومعاشات التقاعد من نظام إلى آخر واختلاف معدل نمو أعداد العاملين إلى المتقاعدين وتقلب الحالة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، فإن من الطبيعي أن تتميز أنظمة التقاعد بالمرونة، وأن يتم تعديل سنوات التقاعد المعمول بها ومعدلات الاستقطاع من المرتبات بما يتوافق مع المستجدات ومستلزمات التوازن بين المساهمات الداخلة إلى صناديق التقاعد والالتزامات الخارجة منها.

تعثر التأمينات

وبسبب طبيعة تركيبة قوة العمل الكويتية وتدني معدلات الاستقطاع من ممولي الصناديق في مقابل الارتفاع النسبي للمعاشات التقاعدية تساهم الخزانة العامة في الدولة وعوائد استثمارات مؤسسة التأمينات الاجتماعية بحصة سنوية في تمويل صناديق التقاعد. إلا أنه وعلى الرغم من هذه المساهمات، تسبب عدم التوازن بين الاشتراكات واستحقاقات التقاعد في حصول عجز اكتواري هائل في صناديق المؤسسة موّلته الخزانة العامة في عام 2008 بنحو 5.5 مليارات دينار كويتي، إضافة إلى مليار دينار كويتي سنوياً من موازنات السنوات المالية اللاحقة حتى ميزانية عام 2015/2016. وتشير التقديرات الراهنة إلى تراكم عجز اكتواري جديد في صناديق المؤسسة قد ينتهي إلى تعثر المؤسسة بحلول عام 2025.

1.6 ضعف زيادة معاشات التقاعد

وتشير المعدلات الفعلية المسجلة على مدى السنوات العشر الأخيرة إلى تفاقم متواصل في إشكالية التأمينات الاجتماعية في الكويت، فقد زاد عدد العاملين المؤمن عليهم بنسبة 38 في المئة، بينما زاد عدد المتقاعدين المستفيدين بنسبة 54 في المئة، وارتفع متوسط المعاش التقاعدي بنسبة 5 في المئة سنوياً، بينما انخفض معدل العاملين أي ممولي الصناديق إلى المتقاعدين من نحو 3.5 في المئة إلى نحو 2.9 في المئة، وزادت قيمة المعاشات التقاعدية بنحو 1.6 مرة.

إن هذه المعدلات تبين مدى خطورة استمرار النمط الحالي لفلسفة التأمينات الاجتماعية، والعبء المتزايد الذي سيشكله العجز الاكتواري المستقبلي على الخزانة العامة، ومن هذا المنظور ينبغي على السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتعاملا بحصافة وحذر وحسن تقدير لما يعنيه خفض تكلفة التقاعد المبكر من ضغوط إضافية على صناديق التقاعد التي تديرها المؤسسة.

رفع سن التقاعد لا خفضه

في مواجهة هذه الإشكالية تتجه صناديق التقاعد الأخرى في العالم عادة إلى رفع معدلات الاستقطاع، وإلى اتباع نظام الشرائح المتعددة في هذه المعدلات من أجل تجنب التأثير السلبي على معدلات الانفاق الأسري. كما تتجه إلى رفع سن التقاعد لا خفضه – خلافاً لما اتجهت اقتراحات نيابية سابقة، كما تسعى الصناديق الدولية عادة إلى عدم زيادة المعاش التقاعدي بما يزيد على معدل التضخم، خلافاً لما ذهبت إليه أيضاً اقتراحات نيابية سابقة.

لقد اتجهت البلدان المتقدمة على وجه الخصوص وما زالت متجهة، في ضوء تحسن مستوى الرعاية الصحية وارتفاع متوسط عمر الفرد إلى رفع سن التقاعد لا خفضه. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر قرار الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والدنمارك وأستراليا برفع سن التقاعد من 65 سنة إلى 67 سنة بحلول عام 2023. بل إن الدنمارك ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث قررت رفع الحد الأقصى للتقاعد سنة واحدة كل خمس سنوات بدءاً من عام 2030، بينما رفعت النمسا سن تقاعد النساء من 60 سنة إلى 65 سنة لمساواتهم بالرجال. أما في هولندا فإن سن التقاعد هو 68 سنة، والتقاعد المبكر متاح عند سن 66 سنة، وسيتم رفعه إلى 67 سنة بحلول عام 2021. وتتجه اليابان إلى رفع سن التقاعد تدريجياً من 62 سنة إلى 68 سنة.

بيت القصيد

إن الانخفاض النسبي لسن التقاعد المنصوص عليه في القانون الحالي للتأمينات الاجتماعية في الكويت، مقارنة مع سن التقاعد في غالبية نظم التأمينات في البلدان الأخرى، لم يتمكن من معالجة إشكالية كرة الثلج المتمثلة في تزايد أعداد الخريجين من المواطنين القادمين إلى سوق العمل، ومن البديهي أن تشجيع الخروج المبكر من قوة العمل لن يعالج هذه الإشكالية فمتوالية الخريجين هي متوالية هندسية لا عددية، ولا يمكن معالجتها عبر نافذة التقاعد المبكر.

إن نواب الأمة بحاجة الى اجتراح مقترحات أكثر جدية، وأعظم جدوى من مقترحاتهم الحالية، فمستقبل الكويت وقدرتها على ايجاد فرص توظيفية كافية ومنتجة للمواطنين لا يكمن في تعديل أحكام قانون التأمينات بقدر ما يكمن في تنويع قاعدة النشاط الاقتصادي وتبني برامج الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي، فذلك هو بيت القصيد.

back to top