انسحاب ترامب من سورية فرصة للسلام

نشر في 06-01-2019
آخر تحديث 06-01-2019 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت قوبِل إعلان الرئيس دونالد ترامب عن انسحاب القوات الأميركية من سورية بإدانة شبه كاملة من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، والواقع أن هذا الإعلان لا يحدثنا بالكثير عن ترامب بقدر ما ينبئنا عن رؤية مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية التي تتسم بضيق الأفق.

الواقع أن التيار الرئيسي لكل من الحزبين السياسيين يُظهِر أحكاما انعكاسية مؤكدة، مفادها أن الولايات المتحدة لابد أن تحافظ على وجود قواتها في مختلف أنحاء العالَم من أجل منع الخصوم من شغل الفراغ؛ وأن المؤسسة العسكرية الأميركية ربما تحمل المفتاح إلى نجاح السياسة الخارجية؛ وأن خصوم أميركا أعداء حاقدون عنيدون لا جدوى من استخدام الدبلوماسية معهم، وربما يكون انسحاب ترامب من سورية مقدمة لحرب إقليمية موسعة؛ ومع ذلك، يمكن عن طريق الخيال والدبلوماسية أن يتحول الانسحاب إلى خطوة حاسمة على الطريق الوعر إلى السلام في المنطقة.

كانت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية تبرر وجود أميركا في سورية خطابيا بوصفه جزءا من الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومع هزيمة داعش وتشتتها في الأساس، يتحدى ترامب الآن مدى صدق تصريح المؤسسة، ولكن على نحو مباغت أعلنت المؤسسة الأسباب الفعلية وراء الوجود الأميركي الموسع، والواقع أن تحرك ترامب اتُهِم بأنه كفيل بإعطاء مزايا جيوسياسية لسورية بشار الأسد، وروسيا فلاديمير بوتين، وإيران علي خامنئي، في حين أنه يعرض إسرائيل للخطر، ويشكل خيانة للأكراد، ويتسبب في إحداث عِلل أخرى لا ترتبط بداعش في الأساس.

كان هذا التحول مفيدا في الكشف عن أغراض أميركا الحقيقية في الشرق الأوسط، والتي هي ليست غامضة رغم كل شيء، باستثناء حقيقة مفادها أن خبراء التيار الرئيسي، والمنظرين الاستراتيجيين في المؤسسة الأميركية، وأعضاء الكونغرس لا يميلون إلى ذِكر هذه الأغراض في صحبة مهذبة، فلم تكن الولايات المتحدة في سورية (أو في العراق، وأفغانستان، واليمن، والقرن الإفريقي، وليبيا، وأماكن أخرى في المنطقة) بسبب داعش، الواقع أن تنظيم داعش كان نتيجة للوجود الأميركي وليس سببا له، بل كانت الأغراض الحقيقية تتلخص في فرض الهيمنة الإقليمية الأميركية؛ وكانت العواقب الحقيقية كارثية.

نادرا ما ذُكِرَت حقيقة الوجود الأميركي في سورية، ولكن بوسع المرء أن يجزم عن يقين بأن الولايات المتحدة لم تكن منزعجة بشأن الديمقراطية في سورية أو أي مكان آخر في المنطقة، كما يتبين لنا بوضوح من احتضانها الدافئ للمملكة العربية السعودية. قررت الولايات المتحدة تعزيز تمرد يسعى إلى الإطاحة ببشار الأسد في عام 2011 ليس لأن الولايات المتحدة وحلفاء من أمثال المملكة العربية السعودية كانوا متلهفين على الديمقراطية في سورية، بل لأنهم قرروا أن الأسد يمثل عائقا لمصالح الولايات المتحدة الإقليمية. وكانت خطايا الأسد واضحة: فهو متحالف مع روسيا، وهو يحصل على الدعم من إيران. لهذه الأسباب، أعلن الرئيس باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن "الأسد يجب أن يرحل"، وقررت أميركا وشركاؤها الإقليميون، بما في ذلك إسرائيل، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، تزويد التمرد المناهض للأسد بالأسلحة والخدمات اللوجستية والتدريب والملاذ (وخاصة في الأردن وتركيا). ووقع أوباما على قرار رئاسي (عملية خشب الجميز) يدعو وكالة الاستخبارات المركزية إلى العمل مع المملكة العربية السعودية من أجل الإطاحة بالأسد، لكن أوباما، الذي كان حريصا على تجنب المعارضة الشعبية القوية في الولايات المتحدة لحرب أخرى تقودها الاستخبارات المركزية مع إرسال قوات أميركية إلى ساحة المعركة، اختار دعم الجهاديين بدلا من ذلك. بيد أن الغرض من العملية السورية كان واضحا: تثبيت نظام سوري يحمل كل الود لتركيا والمملكة العربية السعودية، وحرمان روسيا من حليف، ودفع القوات الإيرانية إلى الخروج من سورية، وكان كل شيء واضحا للغاية من منظور الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية.

ولكن كما هي حال عمليات تغيير النظام التي تقودها الاستخبارات المركزية الأميركية دوما، انتهت العملية إلى الفشل الذريع، ولم تتردد روسيا في تحدي التهويش الأميركي، فسارعت إلى دعم الأسد، ووفرت له إيران كذلك دعما حيويا.

من ناحية أخرى أفضت حرب الوكالة التي أشعلت شرارتها الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى مقتل أكثر من 500 ألف مقاتل ومدني وتشريد ما يزيد على عشرة ملايين سوري حتى يومنا هذا، فضلا عن أزمة لاجئين كبرى في أوروبا لا تزال تبعاتها تزعزع أركان السياسة في الاتحاد الأوروبي. ثم كان انفصال طائفة من الجهاديين عن أخرى لتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية، وفي أعقاب انتشار مقاطع فيديو مروعة صورت قطع رؤوس أميركيين وأسرى آخرين، قرر أوباما التدخل في عام 2014 بشن هجمات جوية وإرسال بعض القوات الأميركية لدعم هجوم بقيادة الأكراد على معاقل داعش.

من منظور ترامب، لم يكن تثبيت نظام سوري ألعوبة في يد الولايات المتحدة لطرد روسيا وإيران في نهاية المطاف يمثل أهمية مركزية للأمن القومي الأميركي فضلا عن استحالة تطبيق ذلك عمليا، وهنا كان ترامب محقا على سبيل التغيير.

لا شك أن انسحاب الولايات المتحدة بترتيب أحادي الجانب من شأنه أن يخلق كارثة أعظم، فقد تغزو تركيا شمال سورية لسحق القوات الكردية؛ وربما تنزلق روسيا وتركيا إلى مواجهة بالغة الخطورة، وقد تشن إسرائيل حربا ضد القوات الإيرانية في سورية، في حقيقة الأمر شكلت إسرائيل والمملكة العربية السعودية بالفعل تحالفا صامتا ضد إيران. بل قد تتوسع الحرب السورية لتتحول إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط، وكل هذا محتمل إلى حد مفزع.

بيد أن هذه السيناريوهات ليست حتمية على الإطلاق، فالدبلوماسية الناجحة ليست مستحيلة، إذا أدركت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية ولو لمرة واحدة أن الدبلوماسية القائمة على الأمم المتحدة، وليس الحرب، ربما تكون الطريق الأكثر حكمة، فتحت رعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (في ظل موافقة أساسية من جانب الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة)، يمكن الاتفاق على ست خطوات لترسيخ سلام أرحب،

لا إذكاء نيران حرب أوسع نطاقا.

أولا، ترحل عن سورية كل القوات الأجنبية (بمن في ذلك الجهاديون الذين تدعمهم المملكة العربية السعودية، والقوات المدعومة من تركيا، والقوات الروسية، والقوات المدعومة من إيران). وثانيا، يدعم مجلس الأمن سيادة الحكومة السورية على أراضي البلاد كافة. ثالثا، يعمل مجلس الأمن، وربما قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، على ضمان سلامة الأكراد. ورابعا، تلتزم تركيا بعدم غزو سورية. خامسا، تُسقِط الولايات المتحدة العقوبات التي تفرضها على إيران. وأخيرا، تتولى الأمم المتحدة جمع التمويل اللازم لإعادة إعمار سورية. قد تقايض إيران الخروج من سورية في مقابل إنهاء العقوبات الأميركية؛ وربما تقبل الولايات المتحدة وإسرائيل إنهاء العقوبات المفروضة على إيران في مقابل انسحاب إيران عسكريا من سورية؛ وقد توافق تركيا على ضبط النفس إذا أعلن مجلس الأمن بوضوح أنه لن يسمح بوجود إقليم كردستاني انفصالي؛ وربما توافق روسيا وإيران على الانسحاب من سورية ما دامت الأمم المتحدة تدعم حكومة الأسد، فضلا عن إنهاء العقوبات المفروضة على إيران. من الواضح أن العقوبات الأميركية المفروضة على إيران تضر حقا بالاقتصاد الإيراني، لكنها تفصل الولايات المتحدة عن بقية العالَم وتخفق في تغيير السياسة الإيرانية الداخلية، وربما يوافق ترامب على رفع العقوبات في مقابل انسحاب القوات الإيرانية من سورية.

وربما يكون بوسعنا أن نرسم صورة أكبر، إذ يتلخص مفتاح السلام في الشرق الأوسط في التعايش السلمي بين الأتراك والإيرانيين والعرب واليهود، فقد كانت أكبر عقبة منذ التوقيع على معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الأولى تتمثل بتدخل القوى الكبرى مثل بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة عند نقاط مختلفة، والآن حان الوقت للسماح للمنطقة بتدبر وإدارة شؤونها بنفسها، دون التعلق بوهم مفاده أن القوى الأجنبية قادرة على تمكين خصم أو آخر من تجنب التنازلات، ومع الحرص على وقف التدفقات الهائلة من الأسلحة القادمة من الخارج. على سبيل المثال، تتوهم إسرائيل وبعض الدول العربية أن الولايات المتحدة قد تسارع إلى إنقاذ الموقف على حساب إيران من دون الحاجة إلى تسوية أو تنازل، ولكن بعد قرن كامل من التدخل الاستعماري الغربي، حان الآن وقت التنازلات والحلول الوسط والتسوية السلمية من جانب القوى الأجنبية تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي.

* أستاذ التنمية المستدامة وسياسات الصحة والإدارة في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة.

* جيفري ساكس

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top