انقلابات السودان... و«الإخوان»

نشر في 03-01-2019
آخر تحديث 03-01-2019 | 00:10
جاء البشير إلى الحكم في يونيو 1989 فوق دبابة "إسلامية"- إن صح التعبير- بتخطيط ورعاية ومشاركة من المفكر الإسلامي البارز د. حسن الترابي، الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية في السودان.
 خليل علي حيدر يبذل الرئيس السوداني اليوم كل ما في وسعه لإنقاذ نفسه من غضب الشعب، ومن المحاكم الدولية، ويقفز من بلد إلى بلد، ومن منصة خطابة إلى أخرى، لعل وعسى. وهو الآن ومنذ فترة على استعداد لعمل أي شيء وكل شيء من أجل البقاء، في حين تتدهور الحياة المعيشية في بلاده وتتصاعد أسعار المواد الغذائية والضروريات والكماليات وتتفاقم البطالة.

المشير عمر البشير، قائد انقلاب 1989، والشخصية التي تطاردها المحكمة الجنائية الدولية منذ سنوات، بعد أن أصدرت أمراً باعتقاله عام 2009 بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، وبمسؤوليته عن سقوط 300 ألف قتيل في السودان، ونزوح أكثر من مليون مشرد داخلياً.

جاء البشير إلى الحكم في يونيو 1989 فوق دبابة "إسلامية"- إن صح التعبير- بتخطيط ورعاية ومشاركة من المفكر الإسلامي البارز د. حسن الترابي، الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية في السودان.

أفاق سكان العاصمة السودانية الخرطوم، يقول الباحث في الشؤون الإسلامية د. بشير موسى نافع، صباح الثلاثين من يونيو 1989 على انعطافة جديدة في تاريخ بلادهم، بعد أن أعلنت مجموعة غير معروفة من الضباط استيلاءها على السلطة.

لم يكن هذا أول انقلاب عسكري في السودان الذي تناوب على حكمه منذ الاستقلال ضباط الجيش، "غير أن هذا كان أول انقلاب عسكري في أي بلد عربي أو إسلامي، يخطط له ضباط إسلاميون وينجحون به في الاستيلاء على الدولة والحكم". كان البشير ضابطاً من الصف الثاني، وأصبح رئيسا للمجلس العسكري الذي تولى حكم البلاد، يضيف الباحث، "أما الزعيم الفعلي للنظام الجديد، ملهم الضباط الانقلابيين ومرجعهم، فهو د. حسن عبدالله الترابي". (الإسلاميون، بيروت 2010، ص187).

كان أحد زعماء الإخوان المصريين ومرشد الجماعة فيما بعد المهندس مصطفى مشهور قد صرح لجريدة الأنباء، 21/ 11/ 1989، يقول: "وسيلتنا في التغيير هي القنوات الشرعية فقط... ونحن حريصون على الالتزام بهذه القوانين"، وكان يتحدث عن مصر وربما غيرها، وفي تلك الندوة أضاف إخواني بارز آخر من زعمائها "مأمون الهضيبي" بالقول: "أحب أن أوضح أولاً أن الموجود ليس بقنوات شرعية، ولكنها قنوات قانونية". شوف الفرق!

ارتبط السودانيون بالمصريين على أكثر من صعيد ومنها "الإسلام الحركي"، وكانت الطريقتان "المهدية" و"الختمية" توفران مرجعية صوفية وثقافية وسياسية لأغلب السودان. زار الشيخ محمد عبده السودان، وتولى الشيخ مصطفى المراغي في هذه الدولة القضاء، ونُفي إليها المصلح رفاعة رافع الطهطاوي، غير أن حركة الإخوان المسلمين كانت الوعاء للمتعلمين الجدد والجامعيين. ولم تكتسب جماعة الإخوان ملامح واضحة في السودان إلا في منتصف الخمسينيات.

ويقول د. نافع إنه "في أغسطس 1954 اتفقت المجموعات الإسلامية السودانية المختلفة على تبني اسم الإخوان المسلمين، ولكن الاتفاق لم يكن سهلاً، إذ رفضت مجموعة من المؤتمرين الارتباط بالإخوان المسلمين في مصر، واختارت من ثم الانفصال لتشكل جماعة إسلامية مستقلة".

نال السودان استقلاله عام 1956، وبعد عامين وقع انقلاب الجنرال إبراهيم عبود، وكان التوجه الإخواني توجهاً ديمقراطياً، ولكن الإخوان السودانيين بالرغم من ذلك امتنعوا عن إدانة الانقلاب بأمل أن يستطيع تخليص البلاد من الفساد والفوضى. (د. نافع، ص188) وبدأ الإخوان بالتوجس من الحكم العسكري عندما أغلق الجنرال عبود الصحف ومقرات الإخوان ونادي أم درمان، الذي كان مركزاً للإسلاميين. في نوفمبر 1959 أُعلن عن إخفاق محاولة انقلابية خطط لها الزعيم الإخواني الرشيد الطاهر بدون علم رفاقه في الجماعة... وفي عام 1962 "تدفقت إلى جسم الجماعة دماء جديدة بعودة حسن الترابي من الخارج ومعه نزعته الاجتهادية التجريبية التي تماهت مع مرور السنوات إلى انتهازية سياسية وتبريرية من كل لون".

شهد السودان انقلاباً عسكرياً جديداً، ففي مايو 1969 استولى الضابط جعفر النميري، في تحالف مع عدد من الضباط الشيوعيين على السلطة، وتعامل النميري بعداء سافر مع الإخوان، كما بادله الإخوان العداء، وانضم الإخوان إلى حزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي في الجبهة الوطنية المعارضة للنميري، في حين أمضى الترابي فترة طويلة من السبعينيات في السجن.

"تلقت الجبهة الوطنية، دعماً ملموساً من السعودية وليبيا، المعارضتين لنظام النميري، مما أتاح للجبهة إقامة معسكر لتدريب عناصرها على العمل المسلح في ليبيا في صيف 1976". (ص 191).

وكان الإخوان السودانيون قد وضعوا نهاية لارتباطهم المعنوي بالتنظيم العام للإخوان المسلمين، وأصبحوا بالتالي أكثر حرية واستقلالا، ولكن "الترابي" مضى إلى المصالحة مع النميري بأعين مفتوحة بهدف "أسلمة النظام من الداخل، ولم يكن الإعلان عن حل الإخوان إلا إعلاناً شكليا، إذ حافظ الإخوان السودانيون على هيكلهم التنظيمي، داخل البلاد وخارجها، كضمان- في تحليل د. بشير- يفيدهم "عند إخفاق مشروع أسلمة النظام". وفي سبتمبر 1983 أعلن النميري في انقلاب شهير له، عدداً من القوانين الهادفة إلى أسلمة الحكم في السودان، تمحورت حول تطبيق الحدود الإسلامة من الجلد وقطع الأيدي وغير ذلك. و"عندما شعر النميري أن نفوذ الإخوان في دوائر الدولة والحكم وصل حداً بات يهدد تفرده، أطاح بالإخوان بلا رحمة. فبعد أسابيع من إعدام "محمود طه"- زعيم الحزب الجمهوري الإسلامي المثير للجدل بتهمة الردة- ألقى القبض على الترابي، وزجّ به في المعتقل. وكان واضحاً عندما انفجرت الثورة الشعبية في أبريل، أن النميري في طريقه إلى إعدام الترابي". فشل انقلاب النميري "الإسلامي"، إذاً، وحاول النميري أن يجعل من الإخوان ضحية لمحاولته الفاشلة!

للبشير ملاحظة قيمة يقول فيها: "ربما قدم النميري بانقلابه على الترابي والإخوان أكبر خدمة لهم، فعندما أسقطت الثورة الشعبية حكم النميري، وكان الترابي قابعاً في السجن، واعتُبر الإخوان بالتالي في صف ضحايا النظام بعد أن كانوا يعدون من حلفائه، وهكذا خرج الإخوان من تجربة المصالحة أكثر قوة وانتشاراً".

وهكذا، كما سنرى، بدأت مرحلة انقلاب البشير فيما بعد، والتي خطط لها الترابي بعناية.

ارتبط السودانيون بالمصريين على أكثر من صعيد ومنها "الإسلام الحركي"
back to top