عشبة... سلمى مطر سيف

نشر في 24-12-2018
آخر تحديث 24-12-2018 | 00:05
 فوزية شويش السالم عشبة... سلمى مطر سيف لا تشبه أي عشبة في العالم، عشبة آتية من منبع في غاية السرية، لا يدركه إلا الندرة من البشر الذين مَنّ الله عليهم بمسحة من العبقرية تجعلهم خارج سرب القطيع، عشبة غامضة لها لمسة سحرية من يتذوقها يتحول إلى طاقة إبداع نورانية لم يسبقه إليها أحد، ولم يأت بمثيل لها من قبل، من نالها ستمسّه عصا الخلود، وسيبقى اسمه حاضرا بقوة حتى وإن قرر الاختفاء والغياب، سحر وهجان عشبته سيبقى مشعّا يتحدى الهروب والنسيان.

سلمى مطر سيف اسم تتخفى خلفه مريم أبو شهاب، كاتبة لمجموعتين قصصيتين تمزعان القلب من مكمنه وتهزان شجر الروح من طاقة نصوص صعب تحديد مكمن ومنبع سحرها الكتابي والفني.

من أين يتأتى كل هذا الدفق لخيالات الشعر ورباته وتهيؤاته وجحيمه ونعيمه وسريانيته التي تتحول إلى محكيات لم يمسها قلم ولم تجترحها مخيلة من قبل؟

قصص وحكايات لعالم مجنون سيريالي مسكون بالغائب والباطن وغوامض المغيبات، قصص تأتي من روح غريبة تسيطر على شخصياتها عوالم لحيوات أناس مجذوبين موتّرين هائمين بأرواح متفردة لا تشبه أحد، معزولة بقفص ذاتها، تحارب طواحين الوحدة والوحشة والاختلاف، وتعاني كينونتها الغريبة بعالمها الغرائبي، الذي يتوه القارئ فيه، ويحار ويحزن ويتضامن وينبهر ويقترب ويبتعد بمحاولة تتبع الشخصية وحربها مع طواحينها.

مبهرة ورائعة قصص "سلمى مطر سيف"، الكاتبة الإماراتية التي تركت لنا مجموعتين قصصيتين، الأولى "عشبة" صدرت 1988، والثانية "هاجر" صدرت 1991، وكان أول نص "العرس" نُشر 1983.

واختفت... ذابت وأمعنت بغيابها، برغم توهج نصوصها ونار اشتعالها العالي، وأصداء النجاح، وإبهار ضوء الدهشة الساطع الذي ينز من نصوصها، إلا أن هذا البريق لم يعد يجذبها، ولم تعد إلى ساحة الكتابة.

تركت خلفها الغموض يأكل الأسئلة بحثا عنها، كيف يتأتي لقلب أن يتخلى عن كل سطوع مجد كتاباته ويتركها خلفه من دون أدنى التفاتة لتبقي بسحرها الآسر بعيدا عن ذاكرة من كتبها؟

اختفت مريم أبوشهاب المتخفية باسم سلمى مطر سيف، وتركت خلفها سحرها الأخاذ بقصصها التي ليس لها مثيل بقوة الكتابة، لا من حيث شعرية اللغة والصورة، وقوة رسم الشخصيات لدرجة تقمّصها وتمثّلها بكل حالاتها الاغترابية وهمومها وعذاباتها الإنسانية والسيكولوجية وضياعها وعدم تناسقها وانسجامها مع محيطها.

أن تأتي الكتابة قبل وقتها وسابقة لزمنها يكون كاتبها متفردا بموهبة فذة لا تشبه أحدا، ويكون علامة لدرب جديد للآتين من بعده، ليتبعوا خطوات استشرافه، كتابات سلمى تثير الدهشة برؤيتها لشخصياتها وتقمص حالاتهم بشكل عجيب، وهي بالواقع شخصيات غريبة تعيش حياة عجائبية، مثال على ذلك قصة "بحران" نشوان، وفيها حارس البحر سلطان من كثرة توحّده مع البحر ووحدته وحاجته إلى امرأة يتوهم الموجة امرأة، ويتعامل معها على هذا الأساس، فيجعلها تسير أمامه، ثم خلفه، ثم يلبسها سرواله وقميصه، ويعريها ليلبس سرواله وقميصه ليقتادها إلى المخفر، ثم يقرر أن يجعلها حارسة على البحر فيعطيها عصاته، وهكذا إلى نهاية القصة.

وقصة "الزهرة" السائق خلفان يدخل مدرسة محو الأمية ويُعجب بالمدرسة، فيقرر أن يهديها كل يوم زهرة، فيبدأ بزهر شجرة الحناء الوحيدة في بيته، حتى يقضي على كل أزهارها، ومن ثمّة يبدأ يدق أبواب البيوت ذات الحدائق ليطلب زهرة منهم حتى انتهت زهورهم، طلب من ابنته أن تقطف زهرة من مدرستها، واقترحت عليه أن تصنع زهرة من أوراق "الكلينكس"، التي قدّمها للمدرسة بعدما عطرها بعطر زوجته الرخيص، وازداد تولعه بالأزهار حتى تحولت عيناه إلى زهرتين، وبعد صراعه مع زهرة الصحراء يتخيل أنه قطفها، ليقدمها لمعلمته كحفنة رمل ساخنة: "قطع خلفان مسافات غزيرة في الصحراء واخترق الكثبان الرملية وسواها بالأرض وغاصت قدماه بالرمال، وتشققت بجروح لاذعة، دخل الرمل شعره وعينيه وفمه، وصار أشبه بكثيب رمل متحرك وكانت الزهرة أمامه، لامعة، متفرعة، سكرية ندية، "اقتربي يا زهرتي" يناديها راكضاً خلف صوته مع الانفساح الصحراوي حتى إذا يبس حلقه من العطش وقف، فرآها مطرية.

ركض... حتى إذا دب الخواء الصحراوي بصفيره الحاد في أذنيه وقف، فرآها تعزف أجراسها موسيقى يموت ويحيا الفؤاد في أمواجها، يجري خلفان تابعا الموسيقى حتى إذا بعدت الصحراء، واختلط الرمل بالسماء وقف فرآها قريبه تظلله، "أرجوك لا تبتعدي".

back to top