إيطاليا... وجهها الجديد الخطير بقيادة سالفيني

نشر في 22-12-2018
آخر تحديث 22-12-2018 | 00:02
وزير الداخلية ماتيو سالفيني
وزير الداخلية ماتيو سالفيني
إطلاق نار على أجانب، واعتداءات على أقليات، وتظاهرات فاشية جديدة: يشعر اليمين الإيطالي المتطرِّف بجرأة متزايدة بسبب قيادة البلد الجديدة. ويحمّل كثيرون المسؤولية لوزير الداخلية ماتيو سالفيني. ولكن هل هو الملوم فعلاً؟ «شبيغل» سلطت الضوء على الموضوع
ما إن نزل من الطائرة حتى اصطدم بدفق من الانتقادات. أعلن ماتيو سالفيني في ختام رحلته إلى أفريقيا أن اللاجئين «الذين يمارسون أعمال الاغتصاب، والسرقة، وتجارة المخدرات» سيوقفون بموجب مرسوم أمني جديد. وتابع غاضباً أن إيطاليا سئمت المهاجرين «الذين لا يهربون من الحرب بل يحملون الحرب إلى بلدنا».

لا يمرّ يوم من دون تحريض من سالفيني. تحوّل رئيس الحزب اليميني «الرابطة» هذا، الذي يشغل منصب وزير الداخلية منذ الأول من يونيو الفائت، إلى صوت الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء جوزيبي كونتي. شعار سالفيني بسيط: «الإيطاليون أولاً». وهكذا تتخذ نبرته منحى عدائياً. وتتجلى تداعيات ذلك في كل مكان.

تعرض مشاة من السود في ماكاريتا لإطلاق نار في وضح النهار. وفي أبريليا، ضُرب مغربي حتى الموت. في كازيرتا، أطلق شبان النار على رجال من مالي. أثار توالي الأخبار المماثلة المستمر بلا هوادة في صيف وخريف 2018 الاشمئزاز في إيطاليا وخارجها. فقد سُجل ما لا يقل عن 70 حادثة عنصرية في هذا البلد بين يونيو وأكتوبر الفائتين.

يبدو أن الفاشيين الجدد واليمنيين المتطرفين في هذا البلد انتعشوا من جديد كما لو أن رهاب الأجانب بات مقبولاً.

أهذه عنصرية؟ ذكر سالفيني، بعدما تعرّضت فتاة في عمر 13 شهراً لإطلاق نار في العمود الفقري من بندقية ضغط هواء، أن لومه كلما عانت فتاة من الروما «إصابة» في مكان ما «سخافة مطلقة». كانت هذه الطفلة من أحد الأحياء الفقيرة التي زارها سالفيني قبل تبوئه منصب وزير الداخلية والتي وعد بتدميرها «بالجرافات».

عنوان هذا التجمع السكني على طرف العاصمة الإيطالية الشرقي جادة فيا دي سالوني 323.

يقع الدرب إلى «مخيم الغجر»، كما يدعوه كثير من الروما، وراء جدار إسمنتي بطول مترين ويخضع لحراسة مستمرة من الشرطة. يضمّ المخيم 614 شخصاً نصفهم من الأولاد، ويقيم هؤلاء في ما يشبه الحاويات والمنازل المتنقلة. يعيش واحد من كل سبعة من الروما أو السينتي في إيطاليا في تجمعات سكانية إثنية منفصلة مماثلة. وبسبب معاملة الروما والسينتي هذه خصوصاً، تُخضع المفوضية الأوروبية هذا البلد منذ عام 2012 للتحقيق في انتهاكاته التشريعات المناهضة للتمييز العنصري والمساواة العرقية. يخطط سالفيني اليوم لإزالة مخيمات مماثلة. ولكن قبل أن يقدِم على خطوة مماثلة، يريد أن يسجّل كل قاطنيها.

نشرة إعلامية دولية

يستطيع وزير الداخلية الاعتماد على معظم جيران هذه التجمعات السكانية، بمن فيهم أولئك القاطنون قرب فيا دي سالوني. ولا يُعتبر هذا الأمر ناجماً فحسب عن إقدام اثنين من الروما البوسنيين على تكبيل فتاتين محليتين واغتصابهما، بل يشكّل أيضاً رد فعل تجاه واقع أن مخيمات الروما صارت تشبه في مرحلة ما منشأة لحرق النفايات في الهواء الطلق.

يعمد إيطاليون يرغبون في التخلص من نفاياتهم بطريقة قليلة الكلفة وغير مشروعة، بمساعدة من الروما، إلى رمي حمولات شاحنات من النفايات والفضلات البلاستيكية هنا. وتشير أعمدة الدخان السوداء المتصاعدة ليلاً إلى أن نموذج العمل هذا ما زال نشيطاً بقوة. نتيجة لذلك، ارتفعت مستويات تلوث الهواء في حي الطبقة الوسطى «كازي روسي» المجاور لمعدلات تضاهي ما يُسجَّل في مكبات النفايات الخطيرة.

يقول أحد المتحدثين باسم مخيم الروما بكل بصدق: «من المستحيل معرفة مَن يُحرق هذه الأشياء. يحدث ذلك ليلاً دوماً». لكن جيران المخيم علّقوا قرب المدخل لافتة كتبوا عليها: «أوقفوا الحرق! هل تريدون حرباً؟ نحن مستعدون».

ولكن ماذا عن إطلاق النار على فتاة صغيرة من الروما تحملها والدتها بمرح بين ذراعيها في ملعب؟ مَن قد يكون على هذا القدر من الشر؟ تبين أنه موظف متقاعد عمل في مجلس الشيوخ الإيطالي، وقد أطلق النار من شرفة منزله في الطابق السابع بواسطة بندقية خردق عالية الضغط. حُملت الطفلة إلى المستشفى وساد الاعتقاد بادئ الأمر أنها ستُشّل طوال حياتها.

جو متفجر

صحيح أن موجة العنصرية الضخمة ضد الروما والسينتي، الذين يُدعون غالباً بازدراء «زنغاري» (الغجر)، لم تولد لتوها مع استلام الحكومة الجديدة زمام السلطة، إلا أن سالفيني ورفاقه في السلاح مسؤولون عن تنامي وتيرة العنف، حسبما يؤكد ناجو أدزوفيك. يضيف: «أعطت هذه الحكومة الناس إذناً بالتعبير عن كرههم. الجو متفجر».

يعمل أدزوفيك، الذي يعتمر قبعة بيضاء، ويرتدي قميصاً مفتوحاً، ويضع سواراً من ذهب، كمبعوث بين عالمين في مدينة روما. يؤدي دور الوسيط بين مسؤولي الحكومة وشعبه ولا ينكر أن «الجرائم الصغيرة مشكلة في مخيماتنا». لكنه يخشى المزاج المتقلب في البلد.

عبّر أدزوفيك أخيراً عن مخاوفه في رسالة مفتوحة حذّر فيها من «مجزرة صامتة» وأعلم المحرّضين اليمينيين في إيطاليا أنهم سيقاومون. ذكر: «لن نسمح لكم هذه المرة بنقلنا إلى مخيمات الموت».

يوضح لويجي مانكوني: «نمت وتيرة العنصرية في إيطاليا، وقد تزداد سوءاً. في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ضمّ البلد 800 ألف أجنبي. لكن العدد ارتفع اليوم إلى ستة ملايين».

شغل مانكوني سابقاً منصب وزير الخارجية وكان عضواً في مجلس الشيوخ. كذلك صنع لنفسه اسماً ككاتب وناشط يدافع عن حقوق الإنسان. واليوم، يرأس هذا الرجل الوقور الذي غزا الشيب رأسه المكتب الوطني لمحاربة التمييز العرقي. لكن المفارقة تكمن في أن هذا المعهد يشكّل جزءاً من حقيبة وزارة الداخلية الموكلة إلى سالفيني.

شكّلت العنصرية موضوعاً محرماً في إيطاليا طوال فترة تتخطى ما شهدناه في الدول الأوروبية الأخرى كافة، باستثناء ألمانيا على الأرجح، وفق مانكوني. ولكن هل يتحمل سالفيني اليوم مسؤولية انتشار رهاب الأجانب؟ يجيب مانكوني: «الجديد أن البلد يُدار راهناً بخليط من الحسد والكره، ما يعني أن ما بدا ميلاً سابقاً تحول اليوم إلى سياسة حكومية رسمية».

ما لا يقوله مانكوني إلا أنه يدركه جيداً من الفترة التي أمضاها في مجلس الشيوخ أن العنصرية المؤسساتية لا تُعتبر ظاهرة جديدة في إيطاليا. فقد أعلن ذات مرة روبرتو كالديرولي، الذي ما زال يشغل منصب نائب الرئيس في المجلس الأعلى، أن «الوزيرة السوداء الأولى في الحكومة تشبه حيوان إنسان الغاب».

«فاشيو الألفية الثالثة»

لطالما انتشرت التعليقات العنصرية من دون أي قيود أو ضوابط في عالم السياسة الإيطالي ولم تقتصر على اليمين المتطرف. على سبيل المثال، انضم لاحقاً مدعٍ عام، ذاع صيته سابقاً بسبب موقفه المتشدد من المافيا، إلى حكومة رئيس الوزراء رومانو برودي اليسارية وأعلن أن إيطاليا، إن لم تضبط مشكلة الهجرة، ستتحول قريباً إلى ما يشبه «مبولة أوروبا».

إن كنت ترغب في لقاء فاشيين جدد، يكفي أن تستقل قطار الأنفاق في سان جيوفاني قرب الكاتدرائية، التي تُعتبر مقر البابا الرسمي، وتتوجه شرقاً. ينتظر ماركو كونتينيسيو في محطة سانتا ماريا ديل سوكورسو. هذا الرجل الملتحي البالغ من العمر 28 سنة الممثل المحلي لـ«كازا باوند»، حزب في حركة «فاشيي الألفية الثالثة» المزعومة.

أُسست هذه الحركة في عام 2003، وتحمل اسم الشاعر الأميركي عزرا باوند، الذي أعرب عن إعجابه بموسوليني. تملك اليوم أكثر من مئة مكتب في البلد مع ما يفوق العشرين ألف عضو. في مدينة روما، صارت هذه الحركة قوة لا يُستهان بها لأنها تقدم مساعدة يومية للمحتاجين، فضلاً عن أنها تثبت وجودها في الأماكن التي تخلت عنها الدولة.

ركب ماركو كونتينيسيو سيارته من طراز هيونداي وبدأ يجوب منطقته الضخمة الفقيرة التي تضمّ مجمعات سكنية قديمة، ومصانع مهجورة، ومخازن متداعية. حاولت المدينة بادئ الأمر إيواء اللاجئين في مناطق تجارية مهملة ومبانٍ فارغة. لكن الناشطين من «كازا باوند» يزدادون نجاحاً في عرقلة هذه الجهود.

يشير كونتينيسيو إلى ملجأ الصليب الأحمر السابق للمهاجرين في جادة فيا فرانتويو الذي تظاهر هو وأصدقاؤه أمامه إلى أن أُقفل. توجه بسيارته أيضاً إلى أكوام النفايات المحيطة بمخيم الروما في جادة دي سالوني حيث تدعم حركة «كازا باوند» احتجاجات الجيران. يذكر: «الروما حيوانات من دون ثقافة أو نية في الاندماج في المجتمع».

نجح الفاشيون الجدد باتباعهم إستراتيجية واضحة في اختراق بطانة العاصمة الاجتماعية. فقد سيطروا على لجان المقاطعات في المدينة التي كانت تابعة لليسار في الماضي. كذلك يوزعون الطعام على المحتاجين ويسيرون دوريات في المناطق غير الآمنة ليلاً. وعندما يتعرّض إيطاليون يشغلون عقارات بطريقة غير مشروعة لخطر الطرد بغية تأمين مساحات السكن للأجانب الذين دخلوا البلد ويلتزمون بأحكام القانون، يتدفقون للتظاهر بأعداد كبيرة.

انفتاح على التعاون

انفتاح على التعاون

تتحدى حركة «كازا باوند» سيطرة الدولة على القوة، أحياناً برضا الدولة. يوضح كونتينيسيو: «مستعدون لبذل كل ما في وسعنا للدفاع عن مصالح الإيطاليين البائسين. نحن حركة راديكالية». ولكن هل يشعر الفاشيون الجدد بأن سالفيني يخدم قضيتهم؟ يجيب: «بالنظر إلى المحتوى، نحن متقاربون جداً. وقد دعمنا شعاره «الإيطاليون أولاً» طوال السنوات الخمس عشرة الماضية. أما تنظيمياً، فكنا أكثر قرباً في الماضي، إلا أننا ما زلنا منفتحين على التعاون».

يُسرّ كونتينيسيو، بقدر ما يسمح له عمله في السوبرماركت، بالقيام بكل ما تطلبه «كازا باوند» منه. تتوقع هذه المجموعة من أعضائها أن يضطلعوا بأدوار نشيطة في مجالات الحياة كافة، سواء في حركات التمرد في الشارع أو مراكز تعليم الفنون القتالية أو حتى في متاجر بيع الكتب أو المشروبات التي تدعم هذا الحزب.

يجتمع قادة الحزب في الأمسيات في مكان لقائهم في Cutty Sark. إلى يسار هذا المكان ترتفع صورة الرئيس السوري بشار الأسد إلى جانب أوشحة تحمل الكلمات: «إلى السلاح، نحن فاشيون».

حضر أيضاً قائد كازا باوند جيانلوكا إيانون: رجل ضخم يرتدي سروالاً قصيراً يرتفع حتى ركبتيه ويحيط بعنقه وشم شعار موسوليني. يقول إيانون، الذي أصدرت محكمة البداية حكماً بحبسه أربع سنوات لاعتدائه على رجل شرطة، إن عهد موسوليني كان «أفضل تجربة في تاريخ إيطاليا».

يتمتع إيانون وزملاؤه من الفاشيين الجدد بتنظيم مُحكَم، وشبكة دولية، وتمثيل جيد على «فيسبوك». وتُدار هذه التفاصيل كافة من مقر الحزب الرئيس في جادة نابليون الثالث في قلب العاصمة. احتلّ ناشطو كازا باوند المبنى بطريقة غير مشروعة في عام 2003 وما زالوا يشغلونه منذ ذلك الحين: بضعة آلاف من الأمتار المربعة الجاهزة للتأجير في أفضل المواقع في المدينة.

أعلن وزير الداخلية سالفيني أنه يملك مسائل أكثر إلحاحاً من إخلاء مبنى في جادة نابليون الثالث. حتى عام 2015، كان حزب سالفيني، «الرابطة»، حليف كازا باوند من خلال البرنامج السياسي المشترك «سيادة».

«السير منفصلين والضرب موحدين»: هذا هو الشعار الذي يتبعه اليمين الإيطالي المتطرف لتحقيق المكاسب السياسية على الأرض. وكما كتب أومبرتو إيكو ذات مرة، تعرف كل الأحزاب اليمينية كيف توقظ حاجة الناس إلى اختلاق الأعداء والاتحاد وراء قائد قوي، من الرابطة بقيادة سالفيني إلى حزب «إخوة إيطاليا» ما بعد الفاشي وصولاً إلى كازا باوند الفاشي الجديد.

عندما يفقد الفاشيون الجدد صبرهم، ينزلون إلى الشارع للتظاهر محتجين إزاء مبنى يسكنه أفقر الفقراء، أولئك الذين يعيشون في هيكل إسمنتي

يحتوي على الأسبست في جادة فيا تيبورتينا. يُستخدم مصنع البنسلين السابق هذا كمأوى لأكثر المهاجرين بؤساً في إيطاليا. فلا نوافذ له وتلعب فيه الرياح بحرية. كذلك تُغطي أرضه مخلفات معدات تصنيع الأدوية، فضلاً عن نفايات بلاستيكية.

تسكن هذا الخراب عجائز لا أسنان لهن، وأمهات مع أطفال، ورجال من غرب أفريقيا. عثر أكثر من 600 شخص على مأوى في هذا المبنى. ويجد هؤلاء أنفسهم في دوامة لا مفر منها: من دون عنوان دائم، ولا يُعتبرون مؤهلين للحصول على إذن إقامة دائمة ولا يتمكنون من الاستفادة من النظام الاجتماعي.

من المستحيل أن يعثر غريب على دربه داخل هذا المبنى المتداعي من دون مساعدة مصطفى درامه، شاب في الخامسة والعشرين من عمره من عائلة تضم 12 ولداً من غامبيا. مصطفى رجل ذكي خاض ملحمته الخاصة: ملحمة أخذته عبر صحراء ليبيا ليركب بعد ذلك القارب مجتازاً البحر الأبيض المتوسط ويصل أولاً إلى جزيرة لنبذوشة وينتقل أخيراً إلى روما عبر كالابريا.

تغطي بطنه الندوب نتيجة التعذيب الذي تعرض له في ليبيا، فضلاً عن أنه فقد البصر في عينه اليمنى نتيجة تعرضه للضرب، حسبما يزعم، على يد الشرطة الإيطالية خلال عملية مداهمة. رغم ذلك، يُعتبر مصطفى أوفر حظاً من غيره: أخرجه عمال الإغاثة من منظمة «أطباء بلا حدود» من المخيم لأنه يجيد خمس لغات أفريقية. وهكذا صار يعمل اليوم مترجماً فورياً ويشارك في الزيارات الأسبوعية إلى مصنع البنسلين التي تقوم بها فرق الأطباء المتشحين بالأبيض.

في الداخل، عُلقت لافتة تشير إلى أن الشرطة تعتبر هذا المبنى «غير صالح للسكن». تناول سالفيني بنفسه أخيراً مسألة مصنع البنسلين هذا، قائلاً إنه يعتبره رمزاً لما يجب تغييره في التعاطي مع الأجانب. أعلن سالفيني: «الأدوية والقذارة» أمر اعتيادي بالنسبة إليهم.

لكنه أكّد أن هذا الوضع لن يبقى على حاله طويلاً. ذكر: «سيُخلى قريباً. كفانا فوضى! سنعيد فرض النظام والهدوء».

وصباح يوم الاثنين، وفى بوعده. فقد داهمت الشرطة المبنى.

العنصرية المؤسساتية لا تُعتبر ظاهرة جديدة في إيطاليا

مخيمات الروما صارت تشبه في مرحلة ما منشأة لحرق النفايات في الهواء الطلق

المفوضية الأوروبية تُخضع إيطاليا منذ 2012 للتحقيق في انتهاكاتها التشريعات المناهضة للتمييز العنصري
back to top