الجدران الخفيّة

نشر في 15-12-2018
آخر تحديث 15-12-2018 | 00:00
No Image Caption
كانت الساعة السادسة مساءً حين شعرت بوعكتي الصحية الأولى، كنت حينذاك في مرسمي الصغير في وسط الأرض التي خلفها لي والدي، نظرت نحو السقف الذي نخرته الطحالب ولطخته عبوات الألوان التي كنت أقذف بها عالياً كلما شعرت بالغضب، وضعت يدي على قلبي أحاول إنعاشه ليستمر في النبض أقله ريثما أفرغ من لوحتها، لوحة أصالة الحسن.

أصالة أخت قضاياي، تزورني مع كل لوحة لتترك شيئاً منها فيها، تدخل رواياتي وتحيط بالألوان، في كل قضية أعيشها تكون أصالة متكئة على كنبة الذاكرة. حتى حين كتبت مؤلفاتي السياسية كنت أخلط الحبر بقليل من غبار حذائها لأكتب، أغلقت عينيّ بشدة وقبض كلي على كلي إثر تسارع نبضات قلبي وتباطؤها، سقطت ريشتي مني وسقطت على الأرض معها، نظرت إلى السقف مرة ثانية ثم أخذت أزحف نحو الهاتف والألوان تسقط من كل مكان على جسدي، رفعت السمّاعة طالباً الإسعاف بصوت يأكله الوجع «النجدة، إنني أموت، تعالوا إليّ بسرعة أنا في الـ... الـ.... الـ....». لا أذكر إن كنت قد خبّرتهم بمكاني حينذاك. لكن وجودي في هذه الغرفة البيضاء دليل على أحد أمرين، إما أنني انتقلت إلى هناك وإما أن أحدهم نقلني إلى المشفى.

كل ما كنت أعرفه حينها أنني قد أصبحت في المشفى، فرنين جهاز القلب غير موجود تحت التراب، هناك أشياء أتعس بكثير من رنين جهاز القلب كصوت همس الحياة حين تسمعه وأنت محروم منه، أو صوت دورية الجيش التي لا يحلو لها أن تزعق إلا بعد منتصف الليل، وما شأني بهذه الأصوات أصلاً؟! ابتسمت على سذاجتي هذه قبل أن أفتح عينيّ لأرى أين أنا؟ ضوء أبيض في السقف وكنبة صغرة عن يساري، وعن يميني جهاز ضخ الجلوكوز، إذاً أنا بالمشفى حتماً، إذاً لم أمت.

ما أن عدلت وسادتي ورفعت ظهري حتى دخلت ممرضة طويلة وجميلة، كنت أشعر أنني أعرفها من قبل أو هكذا أظن، اقتربت مني مبتسمة وقالت: «أستاذ علاء الحمد لله على سلامتك»، ثم ذهبت لتتفحص الأجهزة قبل أن تتابع «أوه! وضعك تمام اليوم، خفنا عليك أول أمس». نظرت إليها باستغراب وعيناي لا تكادان تميزان الأشياء:

«أول أمس! لكن منذ متى أنا هنا؟».

- مضى على وجودك هنا ثلاثة أسابيع.

- أزحت الفراش عني وعقدت حاجبيّ مستغرباً.

- يا إلهي! ثلاثة أسابيع؟! لم؟ ما الخطب وماذا حدث لي؟

- لقد تعرضت لأزمة قلبية حادة وأنت في مرسمك ولولا السيد خالد الحج الذي أحضرك إلى هنا لكنت لا قدر الله قد مت.

- أزمة قلبية! نعم نعم تذكرت، كنت أشعر بألم شديد في صدري، لكن من السيد خالد؟ خالد من؟

- لا أعرف. لا تفكر كثيراً الآن وعد للنوم، يجب عليك أن ترتاح أكثر.

ربتت الممرضة الشابة كتفي قبل أن تسدل عليّ الستار وتركتني في حيرة من أمري. كنت أظن أنني دخلت المشفى أمس، فلم أكن أدرك طوال المدة التي قضيتها فيه! ثم من هذا خالد الذي أحضرني إلى المشفى؟! منذ قطيعتي مع الجالية الفلسطينية في باريس لم يزرني أحد البتة! كان هذا قبل أن أصبح محاضراً في الجامعة في قسم الفنون، حيث كنا حينذاك في إحدى القاعات في نقاش حول دخول فلسطين لأنني كنت أرغب في زيارة بلدتي، لكن الظروف السياسية والشعبية كانت تحول دون ذلك، فبمجرد وضع الختم الإسرائيلي على جواز سفري فهذا يعني ضمنياً قبولي التنازل عن حيفا، واجهت حينذاك معارضة شديدة من قبل الطلاب الفلسطينيين وزملائي العرب في الجامعة، آه كم كانت طريقي في تلك الأيام مزروعة بالشوك!

بدأ هذا الصراع معي منذ كنت طالبًا في هذه الجامعة، وفي بدايات تلك الفترة، لم أكن أستطيع التمييز بين اليهود والصهاينة وهذا ما أثر في تحصيلي العلمي حينذاك حيث كان معظم المحاضرين يهوداً ميالين إلى الفكرة الصهيونية. وبالتالي كنت موضع شك دائم في أي عمل تخريبي يحدث في الجامعة. كانت فكرتي حتى تسعينيات القرن الماضي متعصبة وهجومية على جميع اليهود إلى أن صادفتني مادة في الكلية مع محاضر يهودي يدعى شاؤول وايزمن، هذا المحاضر الذي أول ما عرف نفسه لي قال بأنه يهودي فلسطيني، فنظرت إليه حينذاك بطرفي مستغرباً وقلت:

- تقصد أنك إسرائيلي؟

- لا لا أقصد ذلك، أنا أعرف نفسي كفلسطيني، أظنك كذلك أيضاً، سمعت عنك الكثير يا علاء.

شعرت حينذاك بالشك تجاهه وتركته سريعأ، وتوجهت فوراً إلى أحد المسؤولين في الجالية الفلسطينية لأسأله عنه، وقد صدمني آنذاك أنه أكد لي ما قاله شاؤول بأنه ليس مناصراً للقضية الفلسطينية فحسب، بل إنه فلسطيني أيضاً! هنا ودون أن أدرك أخذ مدى تفكيري بالتوسع أكثر حول هذه القضية، هل حقاً لليهود حق بالسكن في فلسطين؟ كان هذا السؤال هو أكثر ما شغل تفكيري في سنتي الأخيرة في الجامعة، لاسيما وأن شاؤول هو أول من طرح عليّ فكرة العودة إلى فلسطين وعرض عليّ إيجاد عمل يكفل بقائي فيها فترة طويلة. في البداية ظننت أنه يحاول استدراجي بطرائق ملتوية للتنازل عن حق العودة، لكنني أدركت لاحقاً ما الذي كان يريده من ذلك، وهنا كانت بدايات الاصطدام بالأصدقاء في باريس. كنا كلنا في قاعة الاجتماع، حل الصمت قبل أن يدق وليد الطاولة ويقول بنبرة مستهزئة: «بعد تعرفك إلى شاؤول أصبحت معهم؟ أنا لم أطمئن لهذا الرجل من قبل عن أي فلسطيني يتحدث؟! إنه مخادع كاذب». ثم وقف خالد بعد أن أزاح كرسيه بعيداً وراح يصرخ «ما الذي تريده من ذهابك إلى فلسطين؟ نحن أقسمنا على ألا نعود إلا بختم يحمل إشارة دولة فلسطين وليس تحت إمرة إسرائيل! تخيل أن أدخل المطار وأصل إلى بلدي ليقول لي أحد الصهاينة: «نتمنى لك رحلة سعيدة في إسرائيل»، هذا إن قالها أصلاً! تراجع عما تريده ولا توجع رأسنا بقصتك هذه يا أخي».

أوه خالد! نعم تذكرته هو إذاً من نقلني إلى المشفى حين مرضت، لا بد أنه هو لكن ما الذي جاء به إلى مرسمي؟

كان هذا آخر ما يجول في ذهني قبل أن أسقط بغيبوبتي الثانية؛ شعرت حينذاك بأن جسدي بدأ يخونني ويحاول التخلص مني، أتعس الخيانات هي خيانة الذات، خيانة أفكارك ومعتقداتك وجسدك، ما نفع إخلاص الآخرين لك حينذاك؟! هل خنت ذاتي حين حشرتها بين الجدران؟ تلك الروح التي كانت توّاقه لتحطيم كل الحواجز هل تعاقبني الآن لأنني غدرت بها! ذات صباح سألت طلابي في إحدى المحاضرات عن سلبيات المدرسة الواقعية في الفن، فأجابتني الطالبة أصالة الحسن بأنها ملأى بالجدران، لفتتني إجابتها إلى حد أوقعني بها.‎ ‏

back to top