ماذا أعددنا لما بعد «داعش»؟ رؤية تقويمية

نشر في 03-12-2018
آخر تحديث 03-12-2018 | 00:09
 د. عبدالحميد الأنصاري هُزم تنظيم "داعش" الإرهابي، كما هُزمت "القاعدة" من قبل، وزالت دولة الخلافة المزعومة، ولجأ الفارون إلى جيوب نائية في الصحراء السورية، وبعد هذه الهزيمة العسكرية تساءل كثيرون: هل انتهى "داعش"؟! وماذا أعددنا لمرحلة ما بعد "داعش"؟ وكيف نحصن الشباب من الفكر العنيف؟ وما الضمان لعدم انبعاث تنظيم جديد يستنسخ "داعش"؟

هُزم "داعش" وزالت دولته، لكن ركائز البنية التحتية للفكر العنيف مازالت باقية، هزيمة "داعش" عسكرياً لا تعني هزيمته فكرياً، فالفكر الداعشي مازال حياً نشطاً يجتذب شباباً في مجتمعاتنا، دون وجود خطط تربوية فكرية تحصنهم وتحميهم.

داعش إنتاج موروث ثقافي اجتماعي، وقراءة مغلوطة للنصوص الدينية، لم يستطع التكيف مع التغيرات السياسية والاجتماعية والدولية المعاصرة، وهزيمة "داعش" هزيمة لهذا الموروث المتخلف، وفشل لكل مظاهره وتجلياته: تربيةً وتثقيفاً ودعوةً وإعلاماً وأوضاعاً بائسة، لذلك فإن أهم الدروس التي ينبغي تعلمها من تجربة "داعش" الكارثية، العمل على إعادة النظر في هذا الموروث الثقافي، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا رئيسة مثل: قضية السلطة والحكم ودور الشعب في المشاركة السياسية، وقضية وضعية المرأة ودورها المجتمعي، وقضية العلاقة بالآخر المذهبي والديني والآخر الخارجي، وبخاصة فيما يتعلق بمفهومي "الجهاد" و"الولاء والبراء" اللذين ينبغي تدريسهما للناشئة وفق رؤية متصالحة مع العالم، وقضية إخراج الدين من التسخير السياسي والفصل بين الدعوي والسياسي، وذلك على ضوء إعمال مرتكزات محورية، منها:

أولاً: فقه المقاصد العليا للإسلام: وهي الغايات الكبرى للتشريع الإسلامي، التي تبين الحكمة من وراء الأحكام، مثل: مبادئ العدل، وكرامة الإنسان، وحقوقه، وحرية إرادته، والعدالة الاجتماعية، والفضائل والأخلاقيات... إلخ، علينا قراءة النصوص الدينية، وما انتقل إلينا من أقوال الفقهاء القدامى، بما يتفق وهذه المقاصد، وفِي هذا الصدد ينبغي الإشادة بجهود الفقهاء والباحثين المغاربة في تفعيلهم وتطويرهم وبلورتهم للفكر المقاصدي، حتى أصبح تخصصاً علمياً مستقلاً، انظر على سبيل المثال: دراسات وبحوث المفكرين: د. أحمد الريسوني، و د. جاسر عودة، في فقه المقاصد. في تونس هذه الأيام، جدل مثار حول تشريع يساوي بين الجنسين في الميراث، تفعيلاً لفقه المقاصد.

ثانياً: مواثيق حقوق الإنسان الدولية: التي صادقت عليها دولنا والتزمت بتعديل تشريعاتها وأوضاعها السياسية والاجتماعية والتعليمية وفقها.

ثالثاً: دولة القانون والمواطنة: فلا سلطة تعلو سلطة القضاء المستقل، ولا امتيازات خاصة أو تفرقة بين المواطنين في حقوق المواطنة بسبب الأصل أو الجنس أو المعتقد.

رابعاً: الكرامة الإنسانية: كرامة الإنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه، هي غاية الغايات في ديننا، بمقتضى قوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم"، فلا يجوز لأحد أن ينتهك حقاً من حقوق هذا المخلوق الذي كرمه الخالق، بنفسه، عز وجل.

خامساً: فقه المصلحة العليا للدولة والمجتمع: لفقهائنا القدامى والمعاصرين جهود مقدرة في هذا الباب، ينبغي علينا، أبناء هذا العصر، تفعيلها، ففي الماضي، رأى "نجم الدين الطوفي" رعاية المصلحة أصلاً شرعيا مخصصاً للنص عند التعارض، وفِي زمننا، ذهب "جمال البنا" إلى أن الدين جاء من أجل الإنسان، فإذا تعارض النص مع المصلحة، أولنا النص بما يفعل المصلحة.

سادساً: ثوابت الدين القاطعة، وقيمه الأخلاقية الخالدة، والمبادئ والكليات العامة.

ختاماً: الفكر الداعشي، لم يهبط علينا من السماء، بل هو نبت شيطاني ظهر في أرضية اجتماعية موبوءة بآفات فكرية مسمومة، وبعد تجربة "داعش" الكارثية المريرة، التي أودت بحياة الآلاف، وهجرت الآلاف من ديارهم، واغتصبت الآلاف من الأزيديات وتاجرت بهن كسبايا، ودمرت مدناً حضارية وآثاراً تاريخية، وأساءت إلى صورة الإسلام في عالمنا اليوم، ينبغي على الدول العربية، وانطلاقاً من واجبها الديني والوطني والأخلاقي، إجراء مراجعة واسعة لنظامها التعليمي وخطابها الديني والثقافي لتحصين المجتمع والشباب من الفكر المتشدد.

مرحلة ما بعد "داعش"، تتطلب مناهج تربوية جديدة، وتطويراً للخطاب الديني، واهتماماً بتدريس (الفلسفة)، فالمنهج الفلسفي بما يتضمنه من التفكير النقدي التحليلي، يعصم الطالب من التطرف والإرهاب.

* كاتب قطري

back to top