مالڤا

نشر في 01-12-2018
آخر تحديث 01-12-2018 | 00:00
No Image Caption
اسمي مالفا مارينا ترينيداد دول كارمن راييس، لكن أصدقائي هنا ينادونني مالفيا. مالفا فقط بالنسبة إلى الآخرين. أستطيع من باب الدفاع عن النفس أن أقول إن هذا الاسـم ليس من اختراعي طبعاً؛ أبي هو من ابتدعه. لا بد أنك تعرفينه، ذلك الشاعر العظيم. منحني أبي هذا الاسم مثلما يمنح قصائده وكتبه عناوين، لكنه لم ينطق به أبداً أمام الناس. بدأت حياتي الأبدية بعد موتي عام 1943 في مدينة خودا. لم يحضر جنازتي سوى عدد قليل جدًا من البشر لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة. كانت جنازة مختلفة تماماً عن جنازة أبي، التي مشى فيها آلاف البشر في سانتياغو في تشيلي بعد ثلاثين عاماً كاملة من موتي.

مات أبي بطريقة لم يكن سقراط نفسه ليخترعها، احتجزوه في مستشفى سانتا ماريا في سانتياغو بعد أن انتابته هيستيريا من جراء الآلام والآثام والمظالم التي سمعها وعايشها من بشر لا يستحقونها، هستيريا غريبة عنه، هو المعروف بهدوئه ولطفه ولباقته حتى في ظل أكثر الظروف دموية وعنفاً، لم يكن شيء يستطيع أن يفقده سيطرته على نفسه، لكنه هذه المرة أطلق صيحات فزع وغضب ونداء استغاثة وتحول إلى شخص مجنون، ما جعل أحد الأطباء من ذوي الملابس الملائكية البيضاء يهرع إليه ليحقنه بمهدئ أعاد إليه توازنه، وجعله يغرق في نوم عميق مسالم، وسحبه تدريجياً إلى منحدره الأخير، ذلك المنحدر الذي أخذ يتعمق شيئًا فشيئًا، ويتحوّل إلى ما يشبه اللعبة التي يتزحلق عليها الأطفال الصغار، دون أن تبدو له نهاية واضحة. وتماماً كما يتزحلق الأطفال من مرتفع إلى منخفض، أحس أبي بتلك اللدغة الصغيرة أسفل بطنه وهو يهوي إلى نهايته، رغم أنه في الحقيقة لم يكن يهوي، وإنما يصعد إلى عالم ما بعد الموت، حيث يمضي وقتٌ طويلٌ قبل أن ألتقيه هناك، فقد كان يحتاج أن يتعود عالمه الجديد الواسع الممتد، وأن يعود من موته الحقيقي ذاك. مات أبي بحق، مات جداً، ذلك ما أكده الأطباء في اليوم التالي في تقاريرهم ووثقوه بالأدلة القاطعة: توقفت عروق يده عن النبض، ولم تنفتح عيناه أبداً. ظلتا مغلقتين كأنه نائم، ولم يكن أي شيء، أي شيء على الإطلاق، يتحرك فيه، سكنت الريح تماماً داخل أطرافه فهوت باردة متصلبة إلى جانبه، بدا منظره كأن الشمس دخلت منطقة كسوف، أو أن الشتاء يهبط فجأة على الكون.

أطلت هذه الجملة عن قصد، لأمنح أبي فرصة أن يأخذ وقته كاملاً لإتمام آخر قطرة من حياته والدخول بهدوء إلى الموت.

كانت أرملته، ماتيلدا أوروتيا، هي الخاسرة الكبرى، انحنت على الميت، قبلت يديه، ثم شرعت تبحث عن القلم الذي انفلت من بين أصابعه وسقط بجانب سريره على الأرض، لم تجده إلا بعد‏ جهد، ودفعت ذراعيها تحت الفراش في محاولة لالتقاطه، وعندما لم تفلح، طلبت من الممرضة أن تأتيها بمكنسة لتدفع بها تحت السرير وتسحب القلم باتجاهها. عندما التقطته أخيراً، أمسكته بين أصابعها ووضعته خلف أذنها اليمنى، تغطيه خصلة شعر مهملة. باتوخا القذرة (كان أبي يطلق عليها هذا الاسم لأنها قصيرة القامة) وغير الشريفة وغير القابلة للإصلاح أبدًا، كانت في تلك اللحظات تخطط أن تستعمل القلم لإنهاء مذكراته، ثم لاحقًا كتابة سيرة حياتهما معاً.

قررت أن أرشد أبي المشرد في منتصف الطريق الطويل إلى مملكة الموت، أمسكت باليد التي قضى حياته كلها يكتب بها أشعاره، وصعدنا معًا إلى ما فوق الغمامة التي تغطي سانتياغو الملتهبة، ومن مكاننا ذاك، رأينا القصر الرئاسي والحديقة العامة، وملعب الكرة، وأحياء الصفيح والعمال المتنقلين بها، ونهر مابوتشي العظيم، بدا كل شيء بعيداً وغائماً. لم ير أبي كيف كان يتم تعذيب أصدقائه حتى الموت فقط، وإنما رأى أيضا الجماهير التي مشت في الطريق باتجاه مقبرة المدينة حاملة جثمانه إلى مثواه الأخير، والتي بدت من ذلك العلو كأنها فرع من فروع نهر موباتشو، تصب ماءها في شوارع المدينة، في الوقت الذي يمتلئ فيه النهر بمئات الجثث.

من بعيد، وصلتنا الهتافات التي ترفع شعارات الحرب، وتناهت إلينا أصوات الشباب الشيوعيين غير واضحة تماماً، وهم يرددون عبارات من قبيل: الرفيق، بابلو نيرودا، الرئيس، الآن وإلى الأبد.

رأينا أيضًا كتل الغبار تتصاعد من المباني العالية وملعب الكرة والحقول والميناء بعد أن اختارت مثلنا تماماً أن تتوجه إلى الفضاء الواسع.

لا أعتقد - بالمناسبة - أن أبي لاحظ أنني كنت أطير بجواره جنبًا إلى جنب، رغم أنني كنت أمسك بيده طوال هذا الوقت. ظل ينظر إلى الأسفل بلا توقف، وهو يحاول أن يستوعب التراجيديا الإنسانية التي كانت تأخذ أشد صورها قتامة في الأسفل. الآن وإلى الأبد، بدا الأمر كأن الريح التي سيطرت على أحلامه كالحمى تقبض عليه وتتحكم به أكثر مني. انطلق إلى أعلى بسرعة وخفة تفوق خفتي، وشعرت أنه بات لزاماً أن أطلق يده؛ تركت قبضته، ثم وقفت للحظة أتأمله وهو يبتعد ويختفي خلف السحاب.

لم أصادف فيديريكو في أي مكان، ولا سلفادور، ولا ميغيل ولا فيكتور، ولا أي أحد من أولئك المتضخمين المتورمين الذين لا ينقصون أبداً لأنهم يحملون داخلهم جزءًا من جميع أطراف العالم. نعم، في النهاية، حتى الزمرة التي أحاطت به في كل مكان وزمان لا أرى أثراً لواحد منهم هنا، ولا واحد من قرائه المفضلين، تحمّل عناء القدوم لرؤية أبي بعد موته ومرافقته إلى حياة ما بعد الموت. لماذا أنا تحديداً؟ لماذا كان يجب علي من دون كل هؤلاء الموتى الذين عرفهم أبي، وعرفوه عن قرب، أن آخذ بيده وأرشده إلى الطريق؟

أعرف، الآن، أن هذا حدث لسبب محدد هو أن يتسنى لي أن أخبرك بالقصة كاملة.

لم أكن قد استفقت بعد من دهشتي وصدمتي بسبب كمية البشر الذين تجمعوا في 25 سبتمبر 1973 في سانتياغو، من كل حدب وصوب لحضور جنازة أبي، عندما فجأة لمحت والدك في الأسفل البعيد. ربما أنت الآن لا تصدقينني، لكن صدقي هاخر، كان أبوك يقف هناك ذلك الهولندي، فارع القامة، وسط الحشد المتزايد من الأحياء، الذي بدأ ببضع مئات من البشر، وانتهى بعشرات الآلاف. إذًا، لماذا تعتقدين أنني اخترتك دونًا عن البشر لتكتبي قصتي؟

بدا حذراً، في يده كراس مفتوح، يكتب فيه بلا توقف من قلم في يده. ظل مع ذلك متيقظاً من أن لا أحد من أفراد الخونتا الذين يتابعون الجميع بفضول وتوجس يرى ما يكتبه.

ما كتبه ساعتها بقي مجهولاً ومدفوناً داخل اللغة المشفرة والغريبة التي استنبطها بنفسه ليتمكن من الدفاع عن نفسه، في حال تم إيقافه أو القبض عليه كما حدث له مرة في بوليفيا.

back to top