عناق

نشر في 26-11-2018
آخر تحديث 26-11-2018 | 00:05
 فوزية شويش السالم أن تقرأ لطيفة لبصير يعني أن تدخل في عوالمها الاستبطانية حتى تدرك وتحلل مفكات غوامض تفاصيلها، التي قد تبدو معقدة للوهلة الأولى، لكن مع المضي بالغوص بها، والتعمق بتحليلها تتضح معالمها وتتفكك خيوط تشابكها.

مجموعة عناق القصصية للكاتبة د. لطيفة لبصير، يأتي ترتيبها الخامسة من بعد المجموعات التالية: 1- رغبة فقط، 2 - ضفائر، 3 - أخاف من، 4 - مجموعة قصصية مشتركة مع القاص الإسباني نافارو.

إذن مجموعتها القصصية الخامسة تأتي من بعد تجربة كبيرة بالقصة القصيرة، وهي بالفعل تأتي ملوّحة بأوج نضوجها، فقصصها لا تكتبها كـ "حدوتة" أو قصة، كما هو معتاد عليه بفن كتابة القصة التقليدية، لأنها تجاوزت مرحلة القص والحكي بكثير، غاصت واشتغلت على أعماق النفس البشرية وتعقيداتها بقضايا عوالمها الاجتماعية في عصر العولمة وشبكات التواصل الإلكترونية التي عزلتها خلف شاشة زرقاء جمدت أحاسيسها بعالم افتراضي مزيف بارد، وانزوائها في عزلة اختيارية مع صداقات ومعارف، مهما اتسعت فهي باردة وضيقة.

لطيفة اصطادت بحساسية عميقة الانفعالات الداخلية لعزلة شخصياتها، مستبطنةً الحدث الذي يحرك ويهز مشاعر شخصياتهم لتعيشها حتى النخاع معهم.

نصوصها كلها حالات نفسية مرتبكة تحاول فهم أسرار تحولاتها الوجودية، مثل قصة "الدعسوقة" التي تربي فيها البنت حشرات الدعسوقة في طفولتها، وتتداخل الأزمنة وتتقاطع فيها بين مشاهد طفولتها وهي ترتدي زيًّا برتقاليا منقطا مماثلا لشكل الدعسوقة، وبين علاقتها مع زوجها وأحاسيسها بين الزمنين المفارقين، خاصة عندما تربطهما بالساعة الثامنة التي كانت تحدد وقت نومها في طفولتها، وبين الساعة الثامنة حين يدعوها زوجها وهي تقاوم نوبات الغفو التي اعتادت عليها كلما دقت الساعة دقاتها الثماني، بحيث باتت الساعة الثامنة ناقوسا بين زمنين.

كذلك قصة المرأة البدينة التي تتذكر حياتها مع أمها، وهي تؤرجحها ومن ثمة تهديها لوح الشوكولاتة، وتعيش بعد موت أبويها وحيدة في بيتها، متوحدة مع خيالاتها وأحلامها وأوهامها ورغبتها في الطيران بالأرجوحة: "في فراشي، كنت أشعر بخفة كبرى لم أكن قد شعرت بها من قبل، كان جسدي رغم بدانته يحلّق، وكنت أنتعش بطفولتي التي أعيشها رغما عنها، وأدركت أن الزمن في حاجة إلى أطفال يكبرون بطفولتهم، لأول مرة أعشق جسدي البدين، وأرغب في أن أواجه به العالم، وأن يقف هناك صامدا وسط الريح".

القصص كلها تغوص في الحالات النفسية لشخوصها أكثر من أن تحكي قصتهم، وهو الشكل الأكثر حداثة من أن تروي قصتهم، القصة اليوم هي الفن الأصعب حين يتطلب التشريح النفسي والصراع الوجودي لأبطال القصص، أكثر من إظهار حكاياتهم، وهي حكايات الأزل التي تتكرر ولا تنتهي، لكن أن تكون قاصا اليوم هو أن تمتلك هذه القدرة والتمكن من تحليل الحالات النفسية الغريبة المتوحدة مع ذاتها وتصوراتها الداخلية للعالم الذي تعيشه وتتفاعل معه، بحيث تنطق بمشاعرها المكبوتة، وأحاسيسها الباطنية العاصفة التي لا تفرق بين الأحلام والواقع، بين الحقيقة والخيال، لا حدود واضحة بينهما.

قصص لطيفة لبصير فيها أحزان وأوجاع أناس اليوم بمشاعر شفافة متوحدة مغرورقة بدموع الروح التي لا يستطيع مسحها أي أحد، مثل تلك الأم الميتة التي تتحول رويدا رويدا إلى أغصان وفروع لتصبح شجرة ترأف وتتابع خطوات ابنتها في مشاهد قمة بحنانها: "أنظر عبر كوة صغيرة، وأرى في ما أرى وجهها الخائف المدور قليلا.

كانت تنط على الحبل وتبحث عني، لكنها لم تجدني، ولم تعرف في تلك اللحظة أنني تحولت إلى غصن صغير ينام وسط شجرة أرخت جدائلها الخضر وغطت المكان".

وتظهر بوضوح هذه الشخصيات الشاردة الغائبة والساقطة بمفاصلها السرية في قصة "تجاور"، حيث شخصية البطلة المؤلفة تتجاور وتتلاحم وتتحد مع كل الأشكال والشخصيات والحيوانات التي بداخلها، وتشرب كؤوسا متعددة من الشاي الأخضر معهم، وتتحاور مع أحدهم حتى يختفي لتعلم أنه سيعود: "لقد شربت اليوم أكثر من عشرين كأسا منعنعة، لم تكوني تشربين وحدك، كانت معك كل تلك الكائنات التي تعيش بداخلك، إنها تشرب معك، وهي لا ترتوي".

القصة القصيرة عند لطيفة لبصير منفتحة تماما على الشكل الغربي للقصة، ويبدو ذلك واضحا في استعاراتها لبعض أسماء كتّاب غربيين لها، وهذا الانفتاح بدوره يزيد من هذه النكهة الحداثية المنعشة غير التقليدية في كتاباتها.

back to top