هُنا الوردة

نشر في 24-11-2018
آخر تحديث 24-11-2018 | 00:00
No Image Caption
بعدما وضع يونس الخطّاط حقيبته في غرفته بالفندق، نزل إلى الشارع واتّصل من هاتف عموميّ بالرقم الذي يحفظه. أبلغ الذي ردّ بأنّ الضيف قد وصل. ذلك هو الكود المتّفق عليه. سأله الصوت، على الطرف الآخر من الهاتف، عن اسم الفندق الذي ينزل فيه ورقم الغرفة، وطلب منه انتظار شخص يدعى مروان. مكث يونس ثلاثة أيام في فندقه بانتظار مروان. أطول ثلاثة أيّام في عمره. هو، الذي ولد يمشي ويتحرّك ويتكلّم ويحلم ولا يستقرّ في بقعة بعينها، حكم عليه بالبقاء ثلاثة أيّام بلياليها حبيس غرفة فندقٍ في مدينةٍ لا يعرف فيها أحداً . لم يكن لديه ما يفعله سوى الانتظار. على الجدار المقابل لسريره ساعة حائط ذات ماركة معروفة تذكّره بالوقت البطيء، الذي يتمطّى أمامه كقطّ هرمٍ وضجرٍ من هزمه، وفوق رأسه مروحة سقفٍ، خاملة، ذات أنين مسموع. كانت شمس الخارج تتسلّل إلى غرفته رغم الستائر الثقيلة التي يسدلها نهاراً ويفتحها عند الغروب.

شمس تستعرض عضلاتها. تقول من كان منكم ابن أمّه فلينزل إلى الشارع، أو فليطلّ بوجهه من نافذة! كان لا بدّ من أن يفكّر في الانعطافة الحادّة التي طرأت على مسار حياته وأوصلته إلى مدينة السندباد حاملاً رسالة سرّيّة لا يعرف مضمونها، في مهمّة لا يعرف هدفها. استرجع بصوت عالٍ، ولأكثر من مرّة، قصائد لشاعره المفضل الذي يقيم في هذه المدينة، وشاعره المفضل قبله، ابن هذه المدينة أيضاً، وبينهما شعراء ترنّحوا، بأرخص أنواع الكحول، إلى جانب النهر الذي حمل جسد السندباد السحريّ إلى بحار العالم وجزره البعيدة. فهذه ليست مدينة السندباد فقط بل مدينة الشعراء.

يقال هنا إنّك إن ألقيت حجراً سيقع على رأس شاعر! تذكّر يونس نقاشات في حلقة الأصدقاء، يبرز فيها صوت إبراهيم الحنّاوي، الذي عرّفه بشاعره المفضّل الأخير، يقول إنّه يمكن لمكانٍ ما أن يحوز عبقرّيةً لا تفسّرها التحليلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. عبقريّة خاصّة به، وقال، متعجّباً، كيف نفسّر أنّ هذه مدينة للشعر وليست للرواية ولا حتى للنشر، ولا للفكر السياسي، الشعر فقط، وربّما الرسم والعواطف التي لا توسّط فيها؟ وما الرابط؟

كان يحمل نسخة مختصرة من كتاب حكائيّ مترجمٍ يرجع إلى القرن السادس عشر، ورغم اختصارها، فهي تقع في نحو 400 صفحة. إنّه يحبّ هذا الكتاب الذي يسخر فيه كاتبه من قصص الفروسيّة والفرسان الشائعة في زمانه من خلال رحلة مضحكة مبكية، فرحة وحزينة، لبطل كتابه، الفارس الذي لا يشبه الفرسان في شيء سوى برمحه الهزيل مثله، وبخادمه، الذي يبدو أكثر معرفة بأمور الحياة من سيّدٍ يظن طواحين الهواء جيشاً من المردة. تغيّرت قراءات يونس أكثر من مرّة، بحسب انشغالاته. فيمكنها أن تكون فلسفيّة ونقديّة، سوسيولوجيّة بل واقتصاديّة، وشعريّة بالطبع، قراءات نطّاطة، لكنّ كل ذلك لم يمنعه من مواصلة شغفه بقراءة قصص المغامرات ولو من وراء ظهر رفاقه المنكبّين على أدبيّات التثقيف الحزبيّ الجافّة. تلك الملخّصات الكلّيّة التي يراد لها أن تشفي العالم من آلامه الأرضيّة ونواحه على كسرة خبز وشربة ماء.

إن كان ذلك تعبيراً عن التناقض بين الفكرة والشغف، بين ما سمّاه كاتبٌ {قراءات النهار} و}قراءات الليل}، ففي عروق كلّ امرئ يسري، لا ريب، شيء من هذا الإكسير الانفصاميّ. يكون المرء حداثياً في الشعر ويحبّ الروايات التقليديّة، أو تقدّميّاً ويبقي كوّة صغيرة تطلّ على العالم الرجعيّ الأليف، ملحداً ويشهق يا الله عندما تصيبه مصيبة، فنّاناً تجريبيّاً ولا تطرب أذنه إلّا إلى مواويل فلكلوريّة.. وهكذا.

كان قد قرأ نصف الكتاب خلال الرحلة الطويلة. وقسّط النصف الثاني على يومين تاركاً أفكاره تسرح مع مغامرات الفارس الهزيل وخادمه الذي يسمّيه {الفارس حزين الطلعة}. ذلك أنّه لم ير شخصاً مثله من قبل بين الناس، أو ربّما، لأنّ القتال هدّه وأضناه، أو لأنّه فقد أسنانه! يضحك يونس. يضحك أمام الساعة التي يزحف عقرباها ببطءٍ ولؤمٍ على سطح الميناء. وقد كظم العديد من ضحكات مماثلة وهو محشور في الزاوية اليمنى بالمقعد الخلفيّ في سيّارةٍ خاضت بركابها أمواج سراب الصحراء، وقاومت عصفاً مفاجئاً للرمال، وظلت تحت قرص الشمس الحمراء حتى وصلت إلى هذه المدينة، التي تتعالى من بين جنباتها أشجار نخيل رابضة في حرّ جهنميّ.

وكلّما فكّر يونس في حكاية فقد البطل أسنانه، التي تسبّبت في منظره الحزين، الوصف الذي أعجب البطل نفسه، ضحك من كلّ قلبه. وهذا ساعده على تمرير وقت لا يعرف ما ينتظره في غضونه، ولا في نهايته ولا ما يترتّب عليه. فكلّ ما قيل له أن ينزل في فندق متواضع، قريب من الأسواق التجاريّة، وأن يتّصل من هاتف عمومي بالرقم الذي يحفظه غيباً، ويبلغ من يردّ عليه بوصول {الضيف}.

التعليمات التي تلي ذلك، سيتلقّاها من هناك.

لم يظهر يونس كثيراً في ردهة الفندق ولا في مطعمه، ولا في ممرّاته الغريبة شبه المظلمة، بسبب إسدال ستائر ثقيلة طيلة النهار لردع ضوء الشمس المقتحم. كان طعام الفندق سيّئاً بل غريباً. بيد أن، الطعام لا يهمّه كثيراً، ما دامت فناجين القهوة موجودة والسجائر متوافرة، وهذا يفسّر نحوله الذي يحول دون قبحه بنيته المتينة، وجسده المتناسق. اكتفى بطلب ما يعرف، وحتى هذا كانت له تسمية أخرى هنا. الشيء الوحيد الذي طلبه إلى غرفته. بانتظام، كؤوس الشاي وأباريق الماء المثلّجة، فقد كانت القهوة التي تذوّقها، في أوّل إفطار له في الفندق، من النوع سريع التحضير وهذه قهوة لا يستسيغها. لا بدّ أنّ موظّفي الفندق لاحظوا، بفضول أو استغراب، اعتصامه في غرفته. فهو لم يغادر الفندق الصغير الذي يطلّ على شارع ينتصب فيه تمثال برونزيّ لرجلٍ لا يعرف هويّته يرتدي قبّعة مستطيلة تردّه، بثيابه وهيئته العامّة، إلى عشرينيّات القرن الماضي أو ثلاثينيّاته. سأله موظّف الاستقبال ذو الشاربين الكثّين المنسّقين، عصر يومه الثاني في الفندق، عمّا إذا كان يحتاج خدمة، ثلجاً؟ عصيراً؟ بيرة؟ تبديل عملة؟ فردّ عليه بالنفي . غير أنّ موظّف الاستقبال واصل تودّده إليه. أحسّ يونس أنّه فعلاً، كذلك، وليس تطفّلاً أو استدراجاً، ولكن من يدري؟ فذكّره أنّه لم يغادر الفندق منذ وصل، فقال له يونس باقتضابٍ، ودودٍ أيضاً، إنّه ينتظر قدوم أحد أقاربه المقيمين هنا. خطرت له تلك الجملة على الفور ولم يجهّزها كجواب مسبق على سؤال موظّف الاستقبال في الفندق أو غيره. فهي ليست من الجمل التي تدرّب عليها في أحوال الاستجواب وما شابه ذلك. جملة من نوافل الحياة، أو من أكاذيبها الصغيرة، تقال للتخلّص من حرج أو إلحاح. إنّه لا يعرف، في الواقع، أحداً في هذه المدينة. سمع من جدّه ووالده بوجود أقارب لهم فيها، ولكنّه، شخصياً، لا يعرفهم، فضلاً من أنّه لا يعنيه، في هذه اللحظة الفائرة من حياته، وجود أقارب تربطه بهم صلة دم.

back to top