قلوب تحترق

نشر في 24-11-2018
آخر تحديث 24-11-2018 | 00:00
No Image Caption
أخرجت المفتاح من جيب بنطالها وفتحت الباب في هدوءٍ. دخلت وأغلقت الباب في حذر. مشت تحبسُ أنفاسها، متسلّلة على أطراف أصابعها، رأت بصيص نورٍ يتسرّب من بين شقوق باب غرفة الأحزان كما سمتها. هربت منها أنفاسُها المتقطّعة فوضعت يدها على فمها تلجمها خشية أن تصل إلى والدتها فتخرج وتسمعها الموشّح المعتاد. تقدّمت بعض خطوات نحو الغرفة فتسربت إليها رائحة السّجائر وأنغامٌ منبعثةٌ من أسطوانة قديمةٍ:

تِكويتْ ومَا قُلت أَحّيت

وهزّيتْ الجَمرة بِيدَيّا

تغرّيت عشقْت وحبِّيتْ

لُومي عَلى قَلبِي وَعينيّا

نَارِي اللِّي كوَاتنِي من الحُبّ

عَلى قَلبِي اللّي تغَرّ وحَبّ

أنَا دَايا ما لُوش طبّ

نار تطفى نار تشعل فيا

تكوِيتْ ومَا قُلت أحِّيتْ

وهَزّيتْ الجَمرة بيدَيّا

نتحَمّل فِي النّار وانْعَدّي

صَابِرْ عَلَى غُلبِي ووَعْدي

اللّي انحِبّه يَخلّينِي وَحْدِي

لاَ يحِن ولاَ يرُوف عَلَيّا

تكوِيتْ وَمَا قُلت أَحِّيتْ

وهَزّيتْ الجَمْرَة بيدَيّا

يَا مَا شِعْلت فِيّا نَار

وَيَامَا فِكرِي منه احْتَار

حتّى لِيلِي صَارْ نهَار

الحُبّ كوَانِي كَيّة قويّة

أدركت بخبرةِ السّنين أنّ والدَتها في لحظة استنزافٍ للمشاعر واستدرار للمَاضي، وفِرار إلى ملكوت الذّكرى والذكريات التي تعج بهمس رجل حياتها وتوأم روحها، فبعده ما ألفت ساكناً ولا سكناً وباتت في غيابه تنتظر أن تفارق روحها البدن.

هي عادةً لاَ تدخل غرفة الأحزان، ولا تدخّن، ولا تستمع للأسطوانات المعتّقة بالأنين والحنين إلاّ إذا كان هناك من نبش في ماضيها وأوقد فتيل ذكريَاتها، وداس على جِراحاتها وجرّدها من أقنعة النّسيان التي برعت في ارتدائها والتلبّس بها حتّى ظُنّ أنّ لعنة الأقدار لم تلحقها يوماً ولم تعبث بسطور حياتها قطّ.

والدتها جرح مفتوحٌ لا يندمل ولا يبرأ، دائم النّزيف والتمدّد، يطغى مع كلّ هبّة ريحٍ ويشتدّ فتنفخ فيه من روحها فتعيده وجعاً وألماً، وتحييه دمعاً وندماً على شباب مضى وجمال بلى في ظلّ زمن الأحلامُ فيه مصادرة والآمال مكبّلة والعشق فيه قيد التتبّع والترصّد.

تنهّدت زينب وحثّت الخُطى نحو غرفتها، وأوصدت الباب خلفها هرباً من ألم الذّكريات ورائحة أوجاعه الخانقة التي عجزت عن تحرير والدتها منه وكسر الحصار الذي فرضته على نفسها بكامل حريّتها ورغبتها، فكثيراً ما ردّدت {لولا الذّكريات وعَبقها لكنت من الميّتين}.

خلعت زينبُ معطفها ونفضت عنه قطرات المطر العالقة به، ثمّ وضعته بجانبها على الكرسيّ وألقت بنفسها على السّرير دون أن تخلع نعليها. تمدّدت وتنهّدت وهمست في سرها: {سامحك الله يا صادق، ليتك تأنّيت قليلاً حتّى تنقشع الغيوم ويتبين الأمر}. لمحت خطف برق عَبر زجاج النافذة وسمعت رعداً قويًّا، فارتعشت وأغمضت عينيها. إنّها تهاب الرّعد وتخشاه منذ طفولتها، فقد رسمت له جدّتها في ذهنها صورة وحشٍ غاضبٍ جائعٍ يزمجر بحثاً عن فريسةٍ، وعادة ما تكون طفلةً جميلةً ذات شعر طويلٍ. مدّت يدها إلى الوسادة واحتضنتها علّها تمنحُها بعض الأمان والدّفء.

تنهّدت زينب وتذكّرت الحوار الذي دار بينها وبين والدتها صباحاً: {يا زينب، يا بنيّتي عمرك راح بين الجامعة والكُتب، وشعرُك كلّه شيب، إلّي قدّك أولادهم يِجرُوا}. ودّت أن تخبرها أن لا ذنب لها في عنوستها، ورغبت أن تشرح لها أنّها تعيش في عصر تقزّمت فيه الرّجولة، وتأزّمت فيه القيم. لكن أنّى لامرأةٍ تؤرّخ لميلادها بأوّل لقاء مع توأم روحها أن تفهم كلامها وتفقه معناه، فهي ترى أن الحَياة بدون رفيق متاهة قاسية الالتواءات والانحناءات، تقسم الظّهر وتسرع في شيخوخة المرأة. لقد كانت ترى التّجاعيد التي بدأت تتسلّل إلى وجهها والشّيب الذي غزا شعرها صرخاتِ حنين لرجل حياتها وأمنياتٍ متمرّدةٍ في صدرٍ عجز عن احتوائها. فالمرأة عندها زهرةٌ تنمو وتتفتّح في ظلّ دفء الرّجل وعطفه، وإن غاب ذبلت وماتت.

أمّا هي فكانت ترى أنّ الرّجولة انقرضت منذ زمن طويلٍ، ولم تبق إلاّ محاولات يائسة بائسة تسعى لاستردادها، فالرّجولة عندها مبدأ ومسؤولية، شهامة ومروءة، بل هي صدقٌ بالعهود ووفاء بالوُعود وابتعاد على الملهيات واستعلاء على المغريات. وكثيراً ما ردّدت على مسامع الجميع:

- إنّنا نعيش في زمن أزمة الرّجولة، ولن يصلح حال هذه الأمة حتّى يفرّق سي السّيد بين الذّكورة والرّجولة. هي لم تفكر يوماً في الزّواج، وما اعتقدت أنّها في حاجة إلى رجل في حياتها، ولم تجد مرّة مساحةً شاغرة في فكرها لتسكنه إياها، فكل ما كان يشغلها إنهاء دراستها الجامعية وحصولها على الشهادة التي ستضمن لها عيشاً كريماً.

عندما تخرّجت في كلّية الصيدلة والعلوم الكيميائية انخرطت، شأنها شأن بقيّة زملائها في دفعتها ومن سبقها في دوامة البحث عن عمل. نصحها زملاؤها بالتّقديم على مرحلة الدّراسات العليا، لكنّها كانت تؤمن أنّ مثلها لا يحقّ له أن يطمح إلى المراتب العليا، ولا أن يطمع إلاّ في ما تجود به عليها الأيادي الزّكية، فتاريخ أسرتها مع أصحاب النّفوذ والسّلطان مشوّه وغير مرضيّ عنه، ويكفيها أن تحظى بأية وظيفةٍ في أيّ معمل للأدوية تؤمّن لها نفقاتها وترفع عن أمّها متطلّباتها.

نصحها بعضّ أصدقائها بالمحاولة علّ الحظّ يحالفها، لكنّها اكتفت بتذكيرهم بتجربتها في الدّراسة والسّنوات السّت العجاف التي قضتها تلهث خلف شهادة رغم أنّها كانت أفضل من يناقش ويجادل ويحلّل ويعلّل ويقارن ويقارب في المختبرات، وكانت أكثر الجميع اطلاعاً على تاريخ علم الصّيدلة من عصره العشبيّ إلى عصره الكيميائيّ، لكنّها رسبت لرفض أصحاب النّفوذ والأيادي الحمر في الجامعة الاعتراف بتميّزها ورغبةً في استئصال تاريخ عائلتها وكلّ من ابتلي بعشق الحرّية والتّغريد خارج السّرب من سجل الثّقافة والمثقّفين.

سألتها صديقتها فردوس مرّةً عن العشق، عن الحبّ، عن نبض القلب الذي لا سلطان لنا عليه، فابتسمت وقالت مشيرةً إلى قلبها:

- لم تعرف هذه الآلة المعطوبة شيئاً اسمه حبّ وعشق، وأعتقد أنّ الحبّ كالأرزاق، النّاس فيه بين موفور ومعدوم. ويبدو أنّهم صادروا حبّنا عندما صادروا خُبزنا وحريتنا.

قالت لها فردوس وقتها:

- الحبّ لا يُصادر يا زينب، فهو حياةٌ، وتتوقف الحياة إن توقّف الحبّ.

- ومن أدراك أنّنا على قيد الحياة، نحن نعيش أيّامنا فقط؛ نأكل ونشرب ونقضي حاجتنا ثم ننام. لا نفكّر، لا نقرّر، كلّ شيء منصوص عليه في اللّوائح والقوانين، قدرنا مرسومٌ في النّصوص التي يكتبها أصحاب القرار، وفي خطب الجمعة التي يتبجّح بها بعض أصحاب العمائم، قدرنا مكتوب في دفاترنا وبرامج دراستنا وتقارير جواسيسنا وأساتذتنا.

- أخفضي صوتك ودعينا من السّياسة، لا نريد مزيداً من المشاكل.

- السّياسة!؟ ومن قال لك إنّ ما أقوله سياسة، أنا أعبّر عن رأيي في الواقع الذي نعيشه.

حاولت فردوس تغيير الموضوع فاقتربت منها أكثر وقالت:

- لا أصدّق أنّك خرجت من الجامعة دون أن يهتزّ نبضك ويرق قلبك.

ابتسمت وهي تزيح خصلةَ شعر تدلّت على خدها:

- لقد قلت لك، لم يعد في هذه الآلة المعطوبة شيء اسمه حبّ وعشق، فمن ابتلي مثلنا لا حقّ له في الحبّ ولا في الغرام.

- الحبّ لا يُؤمن بالمحن ولا الابتلاءات، فهو قدر لا يفرّق بين غنيّ وفقير، ولا بين أبيض وأسود، ولا حاكم ومحكوم، ولا ظالم ومظلوم. إن حلّ فُتحت له الأبواب طوعاً وخرّت له الجباه خشيةً، وهتفت له الرّوح بشراً، وباركته الجوارح فأنزلته في السّويداء من الكبد، ودثّرته بشغاف القلب، وسكبت له مهجة الفُؤاد شوقاً، وأسمعته تراتيل القلب نبضاً تهدهده أمواج سَكرى...

ضحكت حينها وقالت، وهي ترفع نظارتها عن عينيها:

- حنانيك يا خبيرة العِشق وآلهة الغرام فقد خانك التّعبير والتّمجيد هذه المرّة، فما عاد الحبّ حبّ قيس لليلى، وعنترة لعبلة، وجميل لبثنية، فنحن في زمن النّخاسة كلّ شيء فيه خاضع للمزايدة والمناقصة. والذي يملك أكثر أسهمه في العشق أوفر ونصيبه في القلوب أكبر، ولكن دعك من كلّ هذا وقولي لي بربّك من يجرؤ على التعلّق بفتاةٍ الحديث معها تهمة والنّظر إليها شبهة. إنّ من يفعل ذلك يحتاج بالفعل إلى جرعة زائدةٍ من الرّجولة.

تأبّطت فردوس ذراعها وواصلتا طريقهما إلى مكتبة المدينة.

فردوس هي جارة زينب وصديقتها الوحيدة، يتيمة الأمّ ومحرومة من الأب، معلّمة في مدرسة الحيّ الذي تسكنه. عاشت قصّة حبّ استنزفت منها كلّ ما تملك، وتألمّت حتى لم يبقَ بينها وبين شفير الجنون إلا شهقة أمل، فأوصدت أبواب قلبها وألقت بالمفتاح في عالم النّسيان. وقرّرت أن تعيش الحياة كما هي سواء {كان في كفّها الغار أو في كفّها العدم».

كان ذلك عندما كانت طالبة في السّنة الأولى بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة. دخلت الجامعة بعد أن اغتسلت في بحر الأحزان وتعطّرت بريح الألم، فصارت تنضح بالوجع وتعج بالفجع، ولم تجد من مُتنفّس غير نظم عبارات تبثّها آهاتها وتلقيها في منتدى الشّعر، فقليل من البوح كان يكفي لإخماد أجيج النّار المتّقدة بين ضلوعها.

تمكّنت عباراتها التائهة في بحر الأحزان من اختراق قلوب المستمعين، فحظيت بالتّصفيق والتّهليل، وذاع صيتها، وصار لها معجبات ومعجبُون، فكبر أملها وخبا ألمها، وباتت قلماً لا يتوقّف عن النّظم وروحاً لا تكفّ عن الحلم. وسلت عن فقد والدها بهتاف المعجبين ونسيت موت والدتها بتشجيع المسؤولين. نهلت من بحور الشعر وقوافيه وتشربت أغراضه ومعانيه، فأصدرت ديوانها الأوّل ثم الثّاني، وكتب عنها الإعلام وتصدّرت مواقع الإعلان. وفي أمسية شعريّة نظمتها الكلّية ألقت قصيدتها، ثمّ ذيلتها بأبيات للشّاعر الرّومنسي أبـي القاسم الشّابـي من قصيدة {صلوات في هيكل الحبّ}.

عادت إلى البيت موشّحةً بعبارات الثّناء والمدح تنعم بدفء نظرات المعجبين وهتافاتهم، أحسّت أنها ربّة الشّعر وآلهة النّظم، فآمنت بسحر البيان وأثره على القلب، فكلّ الحضور كانُوا يبحثون عن الكَلمة المترعة بالحبّ والصّور الشّعريّة المشبعة بالخيال حيث تحلّق بهم بعيداً في عالم المجاز والبلاغة فتلهب أفئدة المشتاقين باللّوعة والحنين، وتشيّد في روح المتيّمين أملاً ويقيناً بالوصال واللقاء، وتنفث نار الوله في القُلوب الخاشعة الخاشية من تجربة الغرام فتهيّج سواكنهم وتحرّض جوارحهم على الارتماء في بحر الصّبابة والجوى. فلا عاش من لم تتّقد لواعجه في تنّور الصّبابة ولا كان من لم تفن أيّامه في حشا الهيام.

تمّددت على سريرها تسترجع سير الأمسية الشّعرية، وفجأة رنّ جوّالها معلناً قدوم رسالةٍ من رقم غريبٍ، فتحت الجوّال وقرأت: {أبدعتِ كالعادة يا ربّة الشّعر وإلهة الحبّ، فأنت بالفعل أنشودة الأناشيد غنّاك إله الغناء ربّ القصيد}.

كانت الرّسالة موقعة بـ {عاشق الموت}.

لم تستغرب من محتوى الرّسالة فكثيراً ما وصلتها رسائل بهذا المعنى، لكن ما شدّ انتباهها هو الاسم الذي أطلقه صاحب الرسالة على نفسه {عاشق الموت}، حدّثت نفسها: وهل يُعشق مفرّق الجماعات وهادم اللّذات وسارق الأحباب وميتّم الأطفال؟ فما الموت إلاّ لصّ يسرق منّا أعزّ ما نملك، ولا نملك حقّ الاعتراض أو الردّ.

back to top