كويتيّة في نيويورك

نشر في 17-11-2018
آخر تحديث 17-11-2018 | 00:00
No Image Caption
ريم الميع

نيويورك الكبرى

في تلك الفترة لفت نشاطي الصحافي أنظار السفارة الأميركية فرشحتني لبرنامج تدريبي كانت تعقده للمرة، الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر لصحافيي مجلس التعاون الخليجي، يشمل جولة في الولايات المتحدة الأميركية وإجراء حوارات مع المسؤولين. أبدت الجريدة موافقتها مبدئياً لمسؤولي السفارة وبعد أيام أعيد تدوير المهام وتم ترشيحي لمهمة تغطية مؤتمر المرأة العربية في أبوظبي.

ذهبت محبطة لأن طموحي كان أكبر من قضية المرأة التي كنت أرى أن وجودي في التغطيات الدولية بوصفي امرأة، أبلغ تعبير عملي عن حق المرأة في المشاركة في صنع التاريخ لا القرار السياسي وحسب الذي أراه وسيلة وليس غاية أو هدفاً في نهاية المطاف.

كان أهم ما في مؤتمر المرأة وجود زوجتي ياسر عرفات وعمرو موسى. كانت فرصة لعقد مقارنة بين كل رجل وقرينته فكل قرين بالمقارن يقتدي، سهى عرفات كررت حركات زوجها مع المسؤولين الكويتيين بمطاردة رئيسة الوفد الكويتي فادية ابنة الشيخ سعد العبدالله المعروفة مواقفه مع الفلسطينيين، وما عرفته من فادية لاحقاً أن سهى كانت تقول لها نحن نحبكم وكانت فاديا ترد عليها ونحن لا نحمل تجاهكم أي ضغائن.

أما ليلى عقيلة عمرو موسى فأكدت تعمق أزمته، إذ بدت في تصريحاتها كمن تواسي زوجها وتشد من أزره في مواجهة رفض أفكاره والفشل الذي واجهه في بداية المطاف، وبذلك انكشف إحباطه من بين حروف كلام زوجته.

عندما عدت من أبو ظبي بعد أن أنجزت مهمتي بنجاح، وجدت مفاجأة في انتظاري، اتفاق بين الجريدة والسفارة الأميركية على إعادة تكليفي دعماً من الطرفين لحقوق المرأة في الكويت، وسبب قرار اللحظات الأخيرة إرباكاً أدى إلى صعوبة إيجاد تذكرة إلى واشنطن لا تمر بنيويورك، إذ كنت أتجنبها لعدة اعتبارات أهمها الهاجس الأمني المتشدد في المطار بعد أحداث 11 سبتمبر. بدأت بعدها المطارات في اتخاذ إجراءات نزع الأحذية وبدا العالم بأسره ينزع حذاءه ولم يعاود انتعاله عندما اغتيل بن لادن لاحقاً، بل ظل حافياً. ومن أهم أسباب تجنب المرور بنيويورك فكرة أبي عنها، لكنه هو الذي أمر بذهابي إلى واشنطن عن طريقها عندما سمعني أتحدث بغباء على طريقة «وين أذنك يا حجا» عن الذهاب إلى واشنطن عبر لوس أنجلس.

لاحقاً جسدت نيويورك المثل المشهور «لا محبة إلا بعد عداوة». ذهبت إليها كارهة وعدت منها عاشقة ولم يكن بيننا حب من النظرة الأولى على الإطلاق.

كانت الجولة تتضمن واشنطن كعاصمة للقرار الأميركي، ميشيغان كعاصمة للمهاجرين العرب، نيويورك كعاصمة للقرار الدولي.

كان ثمة وفد التحقت به أيضاً قوامه ثلاثة صحافيين من السعودية وقطر والإمارات وصحافيتان من عمان والبحرين، ولأنني الأصغر سنا عدت إلى عادتي بالاعتماد عليهم لوجستياً.

في واشنطن التقيت بمسؤولين في الإدارة الأميركية، أبرزهم نائب وزير الخارجية السابق ريتشارد أرميتاج الذي أعلن موقفاً متشدداً من صدام في الوقت نفسه الذي كان يعلن فيه من الكويت نائب الرئيس ديك تشيني موقفاً مماثلاً.

في ميشغان تابعت في أثناء لقائي بالجاليات العربية قمة بيروت العربية، وما نتج عنها من لغة متساهلة مع العراق عربياً تناقض شدة اللغة الأميركية تجاهه.

في نيويورك زرت موقع 11 سبتمبر ومقر الأمم المتحدة المقررة سلفاً في الجدول، ثم زرت بعثة الكويت فيها والتقيت بمندوب الكويت الدائم في ذلك الوقت محمد أبو الحسن الذي بين لي أنه لم يكن متحمساً لرغبتي السابقة في تغطية أنشطة الجمعية، لما يواجهها من صعوبات، ولكنه قال إنه لا يتدخل في قرارانا. قلت في نفسي إن قرار القدر جاء لمصلحتي ولم أكن أعرف ما كان يخبئه لي القدر.

ومثلما قادتني نيويورك إلى غوانتانامو قادتني غوانتانامو إلى نيويورك، ويمكن القول هنا إن نيويورك هي الدجاجة التي باضت غوانتانامو أو غونتانامو التي فقست نيويورك. وبمناسبة الدجاج كان أول تصريح كتبته بعد العودة لوزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد، خلال زيارته للكويت، قال فيه إن دعوة الكويت للتصالح مع العراق تشبه دعوة الأسد معانقة دجاجة.

وقد أثار هذا التصريح حفيظة المسؤولين الكويتيين، حيث قال وزير الدفاع السابق رئيس الوزراء الحالي الشيخ جابر المبارك رداً على كلامه «حمل وذئب أفضل من دجاجة وأسد وهل الكويت نمر؟».

ذهبت إلى مؤتمر رامسفيلد الصحافي الذي تعهد فيه بالتخلص من نظام صدام حسين. كان رامسفيلد يقود فريق الصقور في الإدارة الأميركية.

في المقابل، لم يبد وزير الدفاع الأميركي حماسته في الرد على سؤالي عن معتقلي غوانتانامو بعد عودتي منها.

خلال نشر حلقات غوانتانامو تلقيت اتصالاً من الدكتور عبدالله الشايجي الذي كان يشغل منصب ملحق الكويت الثقافي ببيروت. في ذلك الوقت أبلغني أن مدير مكتب الأمم المتحدة في الشرق الأوسط نجيب فريجة رشح اسمي لبرنامج تدريبي للصحافيين تنظمه الأمم المتحدة في نيويورك بسبب الإعجاب بحلقات غوانتانامو.

تلك الحلقات حققت سبقاً غير مسبوق عند نشرها في ذلك الوقت، ونالت إشادة وزير الداخلية آنذاك الشيخ محمد الخالد، ما أدى إلى إعلان نهاية قطيعة بين «الجريدة» ووزارة الداخلية بعد واقعة ضابط المطار ورفع الحظر الذي استمر لأكثر من شهرين منذ 14 فبراير حتى 29 أبريل 2002.

اختلفت الكويت كثيراً قبل نيويورك عما بعدها، وهي ميزة تمتاز فيها هذه المدينة تحديداً عن باقي المدن. لا يمكن أن تذهب إليها ثم تعود منها بما ذهبت به نفسه، سواء كنت عاشقاً أم كارهاً لها ستغيرك وإن لم تفعل فالخلل فيك أنت.

ثمة نيويورك كبرى تحملها معك في حلك وترحالك بمجرد أن تشد رحالك منها وإليها. من نيويورك بدأت رحلتي إلى غوانتانامو ومنها انتهت فصرت من ذلك اليوم ريم التي ذهبت إلى غوانتانامو.

نيويورك الثانية

لا ترقى السفرة التالية إلى نيويورك أن تكون الثانية بل هل الأولى مكرر. ففي المرة الأولى التي لم تتجاوز الأسبوع كنت ضمن وفد خليجي، ولم أتحرك من دون مرافق سواء من الوفد المرافق أو من وزارة الخارجية الأميركية، الجهة الداعية، أو من البعثة الكويتية في الأمم المتحدة حتى في عبور الشارع. هل أحتاج إلى أن أقول إنني تناولت الإفطار في فندقي رغم كونه غير مشمول ورغم ارتفاع ثمنه خشية أن أغادره إلى مقهى قريب فأضلّ طريق العودة وسط الزحام، وهل أكشف سراً إذا قلت إن المقهى الذي تعلقت به لعامين لم يكن تعلقي به لشيء سوى أنه الوحيد الذي أعرف فالإنسان عدو ما يجهل.

في الطائرة المتجهة إلى نيويورك جلست إلى جانبي سيدة هي فاطمة البكر، أرادت أن تتجاوز في رحلتها الأولى مكرر إلى نيويورك الأم رحلتها الأولى في مشهد إنساني مؤثر. ففي المرة الأولى جاءت مرافقة لشقيقها الذي قصد نيويورك للعلاج، لكنه رحل في الطائرة قبل أن يصل. رشحتها جهة عملها لزيارة نيويورك لتجاوز الحاجز النفسي أو الهزة التي أحدثتها زيارتها الأولى.

قام سائق أرسلته السفارة بتوصلينا فاطمة وأنا وأصرت على توصيلي إلى فندق الرعب، كما سميته لتطمئن علي ولم أرها بعدها. قد يمن الله علينا بغرباء هم أحن علينا من أقرب قريب.

في المرتين الأولى والأولى مكرر لا أذكر غير الوحشة والدهشة والضياع وفقدان البوصلة، كحال المدن الجديدة عموماً، بل وأكثر عربات الأجرة التي أتخيلها تختطفني، والاتجاهات تضيعني والأسماء تلخبطني، أشهرها جادة لكنزكتون التي كنت أسميها كنزغتون لاعتيادي على لندن، وحين يختصر السائق الاسم إلى لكز أعتقد أنه سيأخذني إلى مكان آخر، خصوصاً إذا دخلنا في نفق قبل الوصول إليها، إذ كنت مصابة بفوبيا الإنفاق.

في الليلة الأولى ارتديت ثياباً غاية في الأناقة وغادرت الفندق. كنت أنوي زيارة فندق فاطمة القريب عشر دقائق سيراً للاطمئنان عليها ودعوتها إلى العشاء، لكنني عدت إلى فندقي الذي غادرته بعد دقيقتين بعد أن أثارت مشاهدة مجموعة من الشباب بأصواتهم العالية في إحدى الزوايا الرعب في داخلي ثم بت ليلتي بلا عشاء.

صباح اليوم الذي يليه توجهت إلى الأمم المتحدة للقاء مسؤولي البرنامج وإصدار الهوية. كان أبرز المسؤولين الذين التقيتهم هناك والذين امتدت علاقتي بهم لاحقاً هم العمانية ليوثا المغيري، الأميركية جوانا بوتشي، المغربي عبداللطيف قباج.

ورغم أن نيويورك مقر الأمم المتحدة الرئيسي فإنها الجزء المغمور من المدينة، وآخر ما يخطر في البال بعد تمثال الحرية وناطحات السحاب وأسابيع الموضة والفاشن، وهوس التسوق والشراء وعربات الأجرة والتاكسي الأصفر، هذان إن خطرت أصلاً. حتى زوار نيويورك قد لا يزورون الأمم المتحدة، لكن سكان نيويورك لا يقبلون رحيل الأمم المتحدة عن مدينتهم، فهم مرتبطون عاطفياً بها، لذا كان خيار ترميمها وليس هدمها أو نقلها لاحقاً قراراً عاطفياً في مجمله رغم ارتفاع تكلفته المادية.

تولي الكويت منذ انضمامها إلى المنظمة الدولية أهمية كبرى لها (تذكروا كلمات جابر الأحمد في الغزو عنها المنبر العريق منبر الحق والعدل منبر الإشعاع والأمل).

تحديداً في 14 مايو 1963 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 1872 بقبول الكويت في عضوية الأمم المتحدة، لتصبح بذلك العضو رقم 111.

شكل انضمام الكويت لها تكريساً لسيادتها بعد استقلالها من بريطانيا، ومن خلالها حافظت على سيادتها واسترجعت كيانها بتحريرها من العراق عبر قرارات مجلس الأمن التي دانت الغزو العراقي في يومه الأول 2 أغسطس 1990، لذا كانت عضوية الكويت الدورية غير الدائمة في مجلس الأمن انجازاً بالغ الأهمية، خصوصاً أنه جاء بعد 40 عاماً من عضويتها الأولى فيه عامي 1978، و1979، وكانت محل ثقة الآخرين الذين صوتوا لانضمامها، فحصلت على 188 صوتاً من 193 وهو رقم قياسي مقارنة بمنافسيها والآخرين.

back to top