وحي

نشر في 03-11-2018
آخر تحديث 03-11-2018 | 00:00
No Image Caption
أي نعم أضحى كل شيء في حياتنا اليوم رقميّاً، ينساب في الألياف الضوئية للإنترنت: الغزل والعشق، الثورات والحروب، الاكتئاب والانتحار، ألفيّة ابن مالك والفتاوى «أون لاين»، أوجه القتلى والموتى الذين نضعهم على الشبكات الاجتماعية دون استئذان، وأيامنا التي تسيل بين أصابعنا ونحن نراكم صورها، ننشرها، نبعثها للأصدقاء، نمسحها نؤرشفها، نضيعها، ننساها... دون أن نحياها بحقٍّ فعلاً.

كل شيء، بما في ذلك الوحي (أقول هذا وقد رمقت على شاشة هاتفي الجوّال رسالة إلكترونيةً طازجة، عنوانها كلمة مغرية غاوية، تجعلني أفزّ فزّاً: «وحي»)!

ألهاني عن الرسالة الإلكترونية وأوقف تدافع خواطري حول مفهوم هذه الكلمة الكثيفة المبهمة الداكنة الفاتنة الكأداء (وحي!) نورسٌ يطير على بعد أمتار فوقي، بجناحٍ ونصف، يجاهد كي يرتفع، فيما يهبط باضطراد...

أحد جناحيه مشروخٌ يوشك نصفه على الانخلاع لسببٍ أجهله: صدمةٌ في الجو؟ بماذا؟

عراكٌ هوائي مع طائر آخر حول أنثى؟

سهمٌ ذهبيٌّ مجنّحٌ ضاع من جعبة الإله أبولو، وأطلقه صيّادٌ مخالفٌ غير ماهر؟

أم هو نورسٌ من فصيلةٍ يمنيّةٍ عمانية، عريض الجناحين قصير الريش، ضل طريقه ووجد نفسه في ديارٍ أوروبيٍة شمالية، لم يتكيّف مع رياحها الباردة العاتية؟

يجاهد ويجاهد، ثم يسقط باتجاه منتصف طريق السيارات الذي يبعد عن مقعدي في المقهى بضعة أمتار.

لعلها ببساطة رسالة إلكترونية دعائية مزعجة، مصيرها سلّة المهملات.

أفتحها؟ لا أفتحها؟...

استحوذني النورس وصراعه المصيري من أجل التحليق بجناح واحد. أسرعت مرتبكاً لتصويره بهاتفي وهو يعارك لمقاومة هبوطه الحتمي العنيد وسط طريق السيارات.

خلفي شواطئ بحر المانش الذي جاء منه النورس، تبعد عن مقعدي في المقهى حوالى كيلومتر.

أمامي، خلف طريق السيارات، باب محطة القطار الذي سأسافر منه، بعد ساعةٍ وقليل، نحو باريس، ومنها إلى نابولي في جنوب إيطاليا.

أمام طاولتي في المقهى مباشرة: سيدةٌ تعبر الرصيف المحاذي لطريق السيارات. تعبره ببطء لاهتراء جسدها وبلوغها سنًّا تتصلّب فيه المفاصل.

رشيقةٌ جداً مع ذلك. كومة شعرها أنيقةٌ بلون الملح والفلفل الأسود. نظارتها بإطارٍ ذهبيٍّ، رقيقٍ وجميل جداً. معطفها من فرو زاهر منير، تتخلّله أسلاك صوفية دقيقة داكنة.

وراءها، كما يبدو، تاريخٌ من بهاء الطلعة، وبقايا لمسات جمال جذّاب لا يمسه الكسوف بسهولة.

قنبلة إرادة!

حالما رمقت النورس، لم يكن ردّ فعلها اللاواعي تخليد منظر سقوطه بصورةٍ بالهاتف الجوّال، لتضعها على «فايسبوك» مثلاً.

ولكن الهرع الآلي إلى منتصف طريق السيارات، بما تيسّر لها من القوة والسرعة، رافعةً يدها ليراها سائق السيارة المواجهة ويتوقف سريعاً كي لا يدهس النورس الذي يترنح الآن على الأرض.

لو كان زمن «السيارة دون سائق» قد بدأ قبل هذا اليوم الذي سقط فيه النورس (في منتصف 2017)، وليس بعد بضع سنين كما هو مقرّر، ما احتاج أحدٌ إلى الهرع لإنقاذه، لأن كاميرات السيارة سترمقه لا محالة، وستتوقف دون شك، دون الحاجة إلى تدخّل هذه السيدة الثمانينية التي أنقذت النورس بالفعل من الموت طحناً أسفل عجلات السيّارة، لكنها...

لكنها ترنّحت مثله على فوسفات الطريق، ثمّ خرّت بعد أن دقّتها السيّارة أمام عدسة هاتفي الجوّال.

لم أتجرأ على مواصلة التصوير؛ كنت مصعوقًا فاغر الفاه، كمن يتابع فيلم رعب يتقدّم بسرعةٍ ومفاجآت لا يستطيع مواكبتها. وكان المنظر تراجيديّاً، مؤلماً جداً، قبل أن يصير كابوساً يصعب محوه.

كلّ ما لاحظته بعد ذلك: واصل النورس بصعوبة، بعد أن فقد ملكة الطيران تماماً، تقدّمه مشياً على الأرض، باتجاه موقف سيارات واسع على يسار باب محطة القطار، ليختفي بين عجلات سيارة في الصف الثاني أو الثالث من الموقف، وليقضي نحبه بصمت ربما، بعيداً عن البحر وضوضاء زغاريد نوارسه وأصداء هدير أمواجه.

قريباً من صفير سيارة الإسعاف التي جاءت لإنقاذ «شهيدة النوارس» المرمية بين المارّة ونادل المقهى، وروّاده الذين توقفوا بوجوم، أو التفوا حول بقعة الدم، والنظارة ذات الإطار الذهبي الرقيق.

****

لوهافر (المأوى) مدينةٌ وميناءٌ فرنسيٌّ مهم تمّ دكّها كليّة في الحرب العالمية الثانية. المدينة الجديدة، رغم رونقها وازدهارها، ترقيعٌ جراحيٌّ بالضرورة، ووهم.

كلما أكون فيها، يعتورني نفورٌ ما، وقلقٌ ميتافيريقيٌّ خفيفٌ غامض.

مرّت رحلتي منها نحو باريس بالقطار (ساعتين)، ثم إلى نابولي بالطائرة (ساعتين ونصف)، ومنها إلى سورينتو في خليج نابولي بالسفينة (ساعة واحدة)، مرّت مسكونة بصور الشيخة والنورس وهما يلقيان حتفهما على بعد أمتارٍ منّي، وعلى نحوٍ تراجيديٍّ مرعب.

لا أظن أن ثمّة مكاناً أفضل من شقّتي الصغيرة (صالون واسع، وغرفة نوم بسيطة) في ضواحي سورينتو لمحاولة نسيان المشهد.

أروع ما في الشقّة: شرفة بمساحة الصالون تقريباً موازية له وملتصقة به، تواجه الأفق، تحت سماء مفتوحة.

منها أرى بعيداً: جبل فيزوف البركاني، وبحراً لازوردياً عميقاً كان الناس في زمن الإغريق يسمعون فيه غناء حوريات البحر، والجزيرة الميثولوجية الساحرة : إسكيا، مسرح ذلك اللقاء اللذيذ الخالد بين عوليس والأميرة نوسيكا في أوديسة هوميروس.

هوميروس الذي لا يميل إلى الوصف الحسيّ، مثل كاتب ألف ليلة وليلة، ويكتفي بشرارات بلاغية خفيّة تأسر وتثير القارئ، مثل: «هيلين، بيضاء الساعدين». لم يبخل مع ذلك، كما لاحظ الجميع، في مدح جمال هذه النوسيكا: «النخلة الشابة»، «مفخرة أبويها»...

على بعد أمتار من شرفتي: حدائق من أشجار السرو، البرتقال، الليمون، التّين...

طقسٌ صحوُ شمسيٌّ ساحر معظم العام. ليلٌ أسود كثيف تسمع في أعطافه عناق الملائكة.

هنا بدأ الفيلسوف نيتشه حياته الجديدة بعد أن استقال من وظيفته: بروفيسورٌ جامعيٌ في مدينة بال، منذ كان عمره 24 عاماً!

وهنا انطلقت أناه الأعمق، وانبثقت أفكاره الجديدة (التي عارضت أفكار كتابه الأول ولادة التراجيديا وتجاوزتها).

وهنا، من بلكونة فيّلا روبيناسي حيث عاش، كتب أحد أهمّ عطاءاته الخالدة: «هكذا تحدّث زرادشت»، الذي تدور أحداثه في جزيرة إسكيا الساحرة المواجهة.

الحقّ أن التسكّع في الهواء الطلق هنا بين هذه الحدائق، وأمام مناظر بحريّةٍ جبليّة كهذه، يحرّر الروح ويلهم العقل ويوهج الوحي، وينسي الإنسان كل هموم وآلام الحياة، إلا، كما يبدو، مشهد رحيل النورس، وشهيدته السيّدة الملائكية.

لكنه أنساني، في كل الأحوال، تلك الرسالة الإلكترونية التي وصلتني قبيل تحليق النورس بعنوانٍ غير اعتيادي، إن لم أقل مثيرٍ للتشنّج: وحي.

تدافعت في سراديب دماغي، حول مفهوم هذه الكلمة، وتبلورت شيئاً فشيئاً خواطر وخواطر معاكسة، أسئلةٌ وأسئلةٌ مضادة:

لو كان لِوَحيٍ أن يتجلّى اليوم لإنسان، ما لجأ إلا إلى بعث سيلٍ من الرسائل الإلكترونية، وما راود، لذلك، ذهن أحد هذا السؤال الساحق العتيق:

ماذا لو كان ما يسمّى وحيًا مجرد حلم فانتازيٍّ أو سراب، أو فيض خيال، أو صوت داخلي كذلك الذي يسكن استيهامات بعض المهلوسين، أو لحظة تأمل كثيف مرتعش ينبلج منها سيناريو مثير أو فكرة مفصلية؟

back to top