لم تقل وداعاً

نشر في 03-11-2018
آخر تحديث 03-11-2018 | 00:00
No Image Caption
كانت أنفال تقفز فوق السرير فرحاً.. ترسل قبلات متتالية في الهواء لتلك الصورة التي تتوسط جدار غرفتها.. أخيراً وافق والدها على أن يأخذهم إلى حيث قضت أياماً وهي تلح عليه أن يأخذها إلى هناك.. بيد أنّه لم يقتنع إلا حين اقتنع «فارس».. لا يهم.. المهم أنّه اقتنع.. وسوف تذهب إلى تلك المدينة التي عشقتها منذ أول مرة رأت فيها تقريراً عنها في أحد البرامج على شاشة التلفاز.. إلى شرم الشيخ..

ذهبت تجري إلى غرفة فرح لتزف لها ذلك الخبر فلم تجدها.. نزلت السلالم مسرعة إلى حيث اعتقدت أنها سوف تجدها.. إلى حديقة المنزل حيث اعتادت أن تقضي جل وقتها تتحدث عبر الهاتف إلى من لا تعرف أنفال.. سألتها مرة عن سبب انشغالها بذلك الهاتف كثيراً في الفترة الأخيرة.. فكان التوبيخ الشديد وأطنان من عدم الاحترام هو ما جنته أنفال من ذلك السؤال.. لذلك ارتأت ألا تسأل هذه المرة حين رأتها فعلاً منشغلة بالهاتف في يدها ولم تشعر حتى بوجود أختها بالقرب منها فاستدارت أنفال عائدة إلى غرفتها..

فرح الأخت الصغرى لأنفال.. تزوجت قبل عامين رغم معارضة الجميع ممن لم يستطع بإمكانياته البسيطة أن يوفر لها الحياة المرفهة التي أرادتها.. فتركته بعد عام قضت جلّه مغاضبة في منزل والدها.. وعادت إليهم تحمل ثمرة ذلك الزواج على كتفها.. لتلقي بهمِّ تربيتها على والدتها.. وتتفرغ هي لكل شيء.. ما عدا تلك الطفلة..

في غرفتها شرعت أنفال في تجهيز حقيبة سفرها.. فكما قالت والدتها نقلاً عن والدها في صالة المنزل ليسمع الجميع.. إن رحلتهم بعد غد ولم يبقَ الكثير.. وبينما هي منشغلة بما تفعل دخلت فرح تتأبّط شرًّا وهي تقول:

– ارتحتِ الآن؟

لم تتفاجأ أنفال بدخول أختها هكذا بلا سلام ولا استئذان فقد اعتادت منها ذلك فقالت:

– خيراً يا فرح!!

– خير؟.. ومن أين يأتي الخير وقد أقنعت أبـي بما أردتِ؟!

– بل بما نريد يا فرح..

– تريدون!!.. ومن أنتم يا من تريدون؟

– أمي.. أنا.. فارس..

– ومن أقنعهم جميعاً؟.. أنتِ..

– جميعهم يملكون عقولاً تفكر ولم يكونوا مجبرين على الاقتناع بما قلت..

– كالأفعى بثثتِ سمّكِ في عقولهم..

– أفعى!!.. شكراً..

– العفو..

– وما المطلوب مني الآن يا فرح؟

– أنا أطلب منكِ أنتِ؟!

– لم تكلمينني إذاً؟

– هه.. مسكينة أنتِ..

وخرجت فرح صافقةً وراءها باب الغرفة وذهبت إلى فارس تسبقها دموعها كي تحاول إقناعه بما تتمنى وتريد.. ففي النهاية كل الرحلة هي هدية تخرُّجه.. وهو من يأمر وينهى في موضوعها..

دخلت غرفته بعد أن أذِن لها.. فمع فارس تتغير الأمور.. ويطل الاحترام المصطنع برأسه في العلاقة بينهما.. فهو المدلل لدى والدها.. وطلباته أوامر.. إذاً لابد من التذلّل له لإقناعه بما تريد.. حتى يتوهّم أنه ما يريده هو.. فيقنع والدها بما أرادت دون أن يبدو لها أي أثر في كل القصّة..

– مرحباً حبيبـي فارس..

– حبيبك؟!.. خيراً يا فرح؟

– وهل تشك للحظة أنك أخي وحبيبـي؟

– وهل تشكّين للحظة أن ما جئت به خير؟

– كلا يا حبيبـي.. أنا كنت فقط أودّ الحديث معك عن هدية والدي إليك..

– ما بها؟

– هل أنت مقتنع بذلك المكان الذي اختارته أختك؟

– طبعاً.. لمَ وافقت إذاً؟!

– حبيبـي هل تعلم أن تلك المدينة هي بحر وشاطئ فقط؟!

– وكيف عرفتِ؟

– رأيتها في التلفاز..

– كلا ليست كذلك.. اتركي نفسكِ لنا وسوف ترين أكثر من ذلك بكثير..

أحست فرح أنها تخسر لصالح أنفال.. فقررت أن تستخدم ورقتها الرابحة في كل مرة.. ابنتها «فجر».. فقالت: حبيبـي أنا أريد أن أذهب إلى باريس أو لندن.. بودي أن أشتري كثيراً من الأشياء لحبيبتي فجر..

لا يدري فارس إن كانت فرح لاحظت الابتسامة التي ارتسمت على وجهه بمجرد سماعه باسم فجر.. الذي تستخدمه أخته في كل مرة ترغب فيها بإنهاء الحديث لصالحها.. فقال وقد تحوّلت الابتسامة إلى نصف ابتسامة: فرح.. فجر تحب البحر كثيراً.. كخالها.. اتركيها لي في هذه الرحلة وسوف ترين كيف سنستمتع معاً..

– وما أودّ شراءه؟!

– هناك أسواق في شرم الشيخ..

– ولكني أريده من لندن أو باريس..

– أعذريني يا أختي.. إذاً عليكِ أن تنتظري رحلة أخرى..

– ولكن..

شعر فارس أنها لن تنتهي فقاطعها قائلاً: فرح.. هذه هديتي وأنا أرغب في الذهاب إلى شرم الشيخ..

عرفت فرح أنها لن تستطيع إقناعه بما أرادت.. ولكنه يظل مفيداً لها أحياناً في جدالاتها التي لا تنتهي مع أبيها.. فقالت بهدوء تعبت كثيراً في اصطناعه: حسناً يا أخي.. كما تريد..

وخرجت من غرفته وهي تغلي حنقاً وغضباً صبّتهما على من كانت للتو تسوقها حجةً لتغير رأي أخيها في موضوع سفرهم.. فدفعتها بعيداً عنها حين رأتها تقف في طريقها رافعةً يديها الصغيرتين تطلب منها حملها.. واتجهت إلى الحديقة حيث قضت وقتها تثرثر بما لا يُسمع.. مع من لا يعرفه أحد من أهلها..

استيقظ الجميع صباحاً على صوت صرخات تنطلق من غرفة فرح.. هرع الجميع إليها ليجدوها تنتفض تحت اللحاف.. وكأنها تعاني من برد لا يشعر به سواها.. حين رأت التساؤلات في عيونهم بادرت قائلة: سوف نموت.. كلنا سوف نموت..

ناولتها والدتها كوب ماء كان يجاور سريرها وهي تقول: ما هذا الذي تقولينه؟!

تدخل فارس: يبدو أنك كنتِ تحلمين..

قاطعته بحدّة: كلا.. لم أكن أحلم.. أقصد أنه كان حلماً ولكنه سوف يتحقق إن سافرنا على تلك الطائرة..

تبادل فارس وأنفال نظرات اليأس من حال أختهم التي يبدو أنها لا تريد أن تستسلم.. وغادرا غرفتها دون كلام.. بينما جلست والدتها بجوارها وهي تقول: اذكري الله يا ابنتي.. هذه هي المرة الثالثة التي تفزعيننا فيها بذات الحلم.. هل تعانين خطباً؟

– كلا يا أمي.. أنا فقط متشائمة من هذه الرحلة.. ولا أشعر بأنها سوف تنتهي على خير..

– أعوذ بالله.. ما هذا الكلام يا فرح؟!

– صدقّي حلمي يا أمي.. ولا تذهبـي معهم..

– بل أصدق ربـي يا فرح ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾..

– لن تغيّري رأيك إذاً؟

– ولِمَ أغيّره؟!

– ألا تودّين الذهاب إلى لندن أو باريس يا أمي؟

ضحكت والدة فرح وهي تقول: لندن وباريس!!.. ألا تعرفين أباكِ؟!

– بلى أعرفه يا أمي.. ولكن.. ألا تستطيعين التأثير عليه؟

– ومن يستطيع إن كان في الأمر مال؟!

– فارس..

– فارس يودّ الذهاب إلى شرم الشيخ وهو من أقنع والدك..

– لا أمل إذاً يا أمي..

– استسلمي يا حبيبتي وجهّزي حقيبة سفركِ وتعالي معنا.. فلربما لن تجدي هذا العرض مرة أخرى (تضحك)

قالت فرح محاولة التأثير على والدتها ببطاقتها الأخيرة التي ظنّتها رابحة: اتركي فجر معي إذاً..

– تعلمين أنها متعلّقة بـي.. لن تهدأ وأنا بعيدة عنها.. ثم لمَ تحرمينها من السفر؟!

شعرت فرح أن لا مفر من الاستسلام لما يريده الجميع.. فقالت بيأس: حسناً يا أمي.. كما ترين..

خرجت والدتها من الغرفة.. وجرت هي خلفها لتتأكد من إغلاقها الباب.. ثم عادت جرياً إلى ذلك الهاتف الذي ظلّ يضيء تحت اللحاف.. لتجيب بحنق: ألا تنتظر قليلاً؟!.. أهلي كانوا معي في الغرفة...

– هل استطعتِ إقناعهم بما تريدين؟

– للأسف لا.. حتى أمي كانت تقف في صفّهم..

– إذاً لا تذهبـي معهم وابقي معي..

– أفكّر في ذلك..

– لا تفكّري يا حبيبتي.. ألم تشتاقي إليّ؟

– طبعاً اشتقت إليك.. تعلم ذلك جيداً..

– إذاً سوف تبقين؟

– وهل أرفض لك طلباً؟!

– حياتي أنتِ.. صدّقيني لن تندمي على ذلك..

– سوف أذهب لأخبر أمي بقراري..

– انتظري قليلاً.. لمَ الاستعجال.. اخبريها فيما بعد..

– ولمَ ليس الآن؟!

– الآن وقتي أنا..

– وقتك الآن وكل آن يا حبيبـي..

– إذاً لا تدعي أحداً يشاركني فيه.. لا أحب ذلك كما تعلمين..

– أعلم، أعلم يا حبيبـي..

واندست فرح تحت اللحاف.. تثرثر مع ذلك الغريب.. بينما أشغلت من حولها بما فعلت.. دون أن يرفّ لها جفن..

في غرفته.. كان فارس يجهّز حقيبة سفره، تشاركه أنفال.. فهو يحب أن يأخذ برأيها في كل ما يفعل.. لاحظها صامتة على غير عادتها.. فهي معه هو بالذات.. مرحة.. منطلقة.. تثرثر وتضحك جلّ الوقت.. فقال مداعباً: فليتهنَّ من أخذ عقل حبيبتي وتركني وحيداً..

ابتسمت أنفال وقالت: ومن يجرؤ؟!

– أخبريني أنتِ..

– لا أحد طبعاً..

– ما بك يا أنفال؟

– ما بـي؟

– لا أعلم.. تبدين شاردة على غير العادة..

– لا شيء يا أخي..

يعلم فارس ما خطب أخته.. ولكنه كان يريدها أن تتكلم.. تخرج ما في قلبها لترتاح.. يعلم أن فرح تزعجها كثيراً.. وتعاملها معاملة بائسة.. تفتقد لأدنى سمات الاحترام.. حاول جاهداً أن يغير ذلك.. ولكنه لم يفلح.. فقال: أنفال.. حبيبتي.. لا تبتئسي.. ألم تتعوّدي عليها؟!

– بلى يا أخي تعوّدت.. ولكني لا أملك أن لا أستاء..

– وأنا لا أحبّ أن أراكِ مستاءة..

ثم أردف مبتسماً ومقطباً حاجبيه: هل يرضيك أن استاء أنا الآخر؟!

ابتسمت أنفال حين رأت ذلك الوجه الذي رسمه وقالت: لا يرضيني طبعاً..

– ابتسمي إذاً..

– أنا مبتسمة.. ألا ترى ذلك؟!

– اضحكي إذاً..

ضحكت أنفال وهي تقول: أعلم أنك لن تتوقف عن رسم تلك الوجوه حتى أضحك.. لذلك أعطيتك إياها مقدماً..

– وتحرمينني يا أختي من إبراز مواهبـي الفنيّة!!

قالت وهي تضحك: بل أوفّر عليك وقتاً تقضيه في إتمام تجهيز حقيبتك.. فكما تعلم.. غداً نسافر..

قال وهو يرسم وجهاً عابساً: حسناً.. دائماً ما تقفين في وجه مواهبـي..

ابتسم الاثنان وشرعا في إكمال تجهيز تلك الحقيبة، وقد انشرح صدر فارس بعد أن تمكّن من رسم البسمة على شفتي أخته..

بعد أن أعدّت طعام الفطور ووضعته على المائدة.. ذهبت والدة أنفال إلى غرفتها لتنادي زوجها.. والد أنفال.. أو «بوفارس» كما يحلو له أن يسمع.. فوجدته منهمكاً في عدّ رزمة من المال كانت في يده.. فلم ينتبه أو يشعر بدخولها حتى قالت: ألن تأكل؟

لم يجب.. حتى لم يلتفت إليها.. بل واصل العد مشيراً لها بالانصراف برأسه فقط.. دون أن تترك يده ما كانت تمسك من نقود.. فالمال في عالمه أهم من أي شيء وكل شيء.. وما يدخل عنده لا يخرج أبداً.. إلا بألف سؤال واستفسار.. وعشرات الأسباب التي تُساق له ليقتنع بالإنفاق.. حتى وإن كان من يطلب منه.. هم زوجته وأولاده.. لشراء مستلزمات الحياة الضرورية.. والتي لا يحتاج شراؤها إلى تفسير أو تبرير.. ولم يكن يشذ عن تلك الاستجوابات اللامتناهية حين يتعلق الأمر بالمال أحد.. حتى فارس.. آخر العنقود.. وحبيب والده.. ذلك الحب الذي كان سبباً في الاستجابة لطلبه في الحصول على رحلة إلى شرم الشيخ.. كهديّة لنجاحه في الثانوية العامة.. وتخرجه فيها بتفوّق.. ولحصوله أيضاً على الكثير من التهديد والوعيد.. إن طلب مثل هذه الطلبات المكلفة مادياً مرة أخرى.. فذلك الحب لم يكن يشفع له دائماً حين يتعلّق الأمر بالمال.. فالمال.. والمال وحده.. هو المهم لدى «بوفارس»..

خرجت والدة أنفال من الغرفة وعقلها يهذي بتساؤلات لطالما جالت فيه دونما أجوبة.. «لمَ يجمع كل تلك الأموال ويكدسها ويحرمنا منها؟».. «لم؟!».. «لمن؟!».. وكما هي الحال دائماً.. لم تجد جواباً.. فلا أحد ممن حوله يعلم فعلاً لماذا يكدّس كل هذه الأموال.. ولماذا هو بهذا البخل حتى على زوجته وأولاده.. ربما ليتنعّم بها الجميع بعد ذهابه إلى عالم آخر.. لن يستطيع أن ينفق فيه فلساً واحداً مما جمع وعدّد..

back to top