ما قــل ودل: الكتاب الذي زلزل عرش مصر قبل ثورة 23 يوليو

نشر في 21-10-2018
آخر تحديث 21-10-2018 | 00:10
 المستشار شفيق إمام في مثل هذه الأيام في 18 أكتوبر 1950 وجهت القوى السياسية في مصر رسالة قوية إلى الملك زلزلت عرشه، وكنت في مقالي الأحد الماضي قد أشرت إلى أن إقامة حكم ديمقراطي سليم كان أحد أهداف ثورة 23 يوليو 1952، والواقع أن هذه الثورة لم تكن نبتاً بغير جذور، فقد كانت التجربة البرلمانية في مصر تخوض أشرف معاركها قبل الثورة ضد السراي والاحتلال الإنكليزي والفساد.

التجربة البرلمانية في استهلالها

فقد كانت التجربة البرلمانية في مصر بعد نجاح ثورة 1919 وإعلان استقلال مصر وصدور دستور 1923 تجربة برلمانية رائعة، عندما كانت الأحزاب تقتصر على حزبين: حزب الوفد الذي ترأسه زعيم ثورة 1919، الذي خرج من رحم الثورة، والحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الوطني مصطفى كامل وخلفه في رئاسته محمد فريد ثم تلاهما حافظ رمضان.

فقد نجح سعد زغلول في استهلال هذه التجربة في أن يؤسس لنظام حكم برلماني نموذجي يشابه نظام الحكم في بريطانيا، حيث يسود الملك ولا يحكم، في مواقفه الرائعة من قرارات الملك بتعيين خُمس أعضاء مجلس الشيوخ، وفي تعيين رئيس الديوان الملكي، وفي منح الرتب والنياشين، فقد أصر على أن تكون كل المراسيم التي يصدرها الملك في هذه الأمور بموافقة الحكومة، وفي أحدها احتكم الملك وسعد زغلول إلى النائب العام البلجيكي الذي أيد وجهة نظر سعد زغلول ورضخ الملك.

وقوف الشعب خلف الحكومة ضد السراي

ووقف الشعب خلف رئيس الحكومة وحزب الوفد والبرلمان عندما أصدر الملك فؤاد مرسوما بحل مجلس النواب في عام 1926م، ودعا إلى انتخابات جديدة، فعاد مجلس النواب الجديد بذات الأغلبية التي كانت لسعد زغلول وحزب الوفد في انتخابات المجلس المنحل، وتحدى مجلس النواب الملك عندما لم يكلف سعد زغلول زعيم الأغلبية البرلمانية بتشكيل الحكومة، فانتخب سعد زغلول رئيسا للمجلس، وواجه الملك هذا التحدي بحل مجلس النواب بعد ساعات من انعقاده، وعندما تكشف للناس أن الملك لن يدعو إلى انتخابات جديدة خلال الستين يوما التالية لحل المجلس اندلعت المظاهرات في الشوارع، وتنادت الصحف جميعا لمطالبة مجلس النواب بالاجتماع فور انقضاء هذه المدة، كما ينص على ذلك الدستور، واجتمع المجلس استجابة لرغبة الشعب واحتراما لأحكام الدستور، حيث كانت تدوي هتافات الشعب خارج الاجتماع الذي عقد في فندق الكونتيننتال منادية بحياة سعد زغلول وحياة البرلمان والديمقراطية وسقوط الملك.

التجربة البرلمانية كانت جذور ثورة يوليو

صادفت التجربة البرلمانية في مصر بعض العقبات والمصاعب وبعض النكسات أمام تدخل الملك والسراي والإنكليز في الحكم، وبسبب التزوير الذي كان يقع في الانتخابات، لكن التجربة كانت تصحو لتعيد سيرتها الأولى، وهو ما حدث في قضية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، وملاحظات ديوان المحاسبة على صفقات الأسلحة، والتي تلقفها إحسان عبدالقدوس في حملة صحافية كبيرة طالت الحاشية وغيرهم من سماسرة الحزب، وأدت إلى رضوخ الحكومة وإحالة القضية إلى النيابة العامة، وما جرى من تدخل الملك لحماية حاشيته، الأمر الذي أدى بالنيابة العامة إلى حفظ التحقيق بالنسبة لهم، وملاحظاته أيضا.

تدخل الملك في التحقيق

وقد استطاع الملك وهو في أوروبا أن يوفد إدمون جلاد السمسار الأول في هذه الصفقة الذي كان يرافقه ليفتح خزانته قبل تفتيشها بناء على أمر من النيابة، ويأخذ جميع الأوراق وكشوف الحسابات حول هذه الصفقات التي تدين الملك وحاشيته بدعوى أنها أوراق خاصة بجلالة الملك، وقد حضر إدمون إلى مصر وغادرها رغم صدور أمر النيابة العامة بالقبض عليه عند عودته.

استجواب مصطفى مرعي

كما قدم مصطفى مرعي عضو مجلس الشيوخ، في مايو 1950 استجوابا للحكومة عن أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة سالفة الذكر.

وكان معلوماً أن صفقة الأسلحة الفاسدة هي أحد هذه الأسباب فضلا عن ملاحظات الديوان على صرف رئيس الديوان الملكي كريم باشا ثابت خمسة آلاف جنيه من التبرعات التي جمعت لمستشفى المواساة، وغضب الملك على رئيس الديوان محمود محمد محمود باشا وأرغمه على تقديم استقالته.

وكان مصطفى مرعي قد قدم قبل ذلك استجوابا عن النفقات التي أنفقتها الحكومة لتجديد الباخرة المحروسة التي تخص الملك والتي غادر البلاد على متنها عندما اعتزل الحكم بعد قيام الثورة.

ولعل من المفيد في هذا السياق أن نعرض أهم وثيقة في الحياة السياسية في مصر وقعتها القوى السياسية قبل بزوغ ثورة 23 يوليو بأقل من عامين في كتاب وجهته إلى الملك في 18/10/1950 شرحت فيه كيف سرى الفساد واستشرى، ونددت بحاشية الملك وطالبته بتصحيح الأوضاع، تقول الوثيقة:

"يا صاحب الجلالة:

إن البلاد لتذكر لكم أياما سعيدة كنتم فيها الراعي الصالح والرشيد، وكانت تحف بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفّت حول شخصكم قلوبها. واليوم تجتاز البلاد مرحلة من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسف أنها كلما اتجهت إلى العرش في محنتها حيل بينه وبينها لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانا في الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف، فأساؤوا النصح وأساؤوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات هي الآن مدار التحقيق الجنائي الخاص بأسلحة جيشنا الباسل.

ومن المحزن أنه ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات التي لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصري مضغة في الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا في صورة شعب مهين يسام الضيم فيسكت عليه.

يا صاحب الجلالة

إن الصدور منطوية على غضب تغلي مراجله، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون.

لهذا كله نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحا شاملا وعاجلا فترد الأمور إلى نصابها وتعالج المساوئ التي تعانيها مصر على أساس وطيد من احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، بعد استبعاد من أساؤوا إلى البلاد وسمعتها ومن غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشلوا فشلا سحيقا في استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها حتى بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها وأهدروا فوق هذا اقتصادها القومي، فاستفحل الغلاء إلى حد لم يسبق له مثيل، وحرموا الفقير قوته اليومي".

شموع ثورة 23 يوليو والموقعون على هذه الرسالة هم:

إبراهيم عبدالهادي، محمد حسين هيكل، مكرم عبيد، حافظ رمضان، عبدالسلام الشاذلي، طه السباعي، مصطفى مرعي، عبدالرحمن الرافعي، إبراهيم دسوقي أباظة، أحمد عبدالغفار، علي عبدالرازق، رشوان محفوظ، حامد محمود، نجيب إسكندر، زكي ميخائيل بشارة، السيد سليم.

كان الموقعون على هذه الوثيقة هم بعض الشموع التي أضاءت الطريق أمام ثورة 23 يوليو، كانوا بمثابة الطليعة الأولى التي زعزعت عرش الملك فاروق، ولكنهم أصبحوا محرومين من حقوقهم السياسية بعد الثورة التي نبذت كل من تولى سدة الحكم في البلاد قبل ثورة 23 يوليو 1952، وكان أغلبهم قد تولوا حقائب وزارية قبل الثورة.

حرية الرأي وحق التعبير عنه

والبادي من هذه الرسالة القوية أن حرية الرأي وحق التعبير عنه كانا مكفولين في التجربة الديمقراطية قبل ثورة 23 يوليو، وأن أحداً ممن وقعوا على هذه الوثيقة لم يصبه أي أذى، بل كان كل ما فعله نظام الحكم وقتئذ هو منع نشر الكتاب أو إذاعته.

وقد كانت هذه التجربة، تربة صالحة لكي ترويها ثورة 23 يوليو وتحميها وتثريها بمبادئها، وتوجهاتها الاجتماعية في الإصلاح الزراعي وغيره، وقد كان تحديد الملكية الزراعية اقتراحا بقانون مطروحا على برلمان ما قبل الثورة، لتحقق أهدافها كاملة بإقامة برلمان قوي قادر على الحفاظ على مكاسب الثورة.

back to top