الظلّ

نشر في 20-10-2018
آخر تحديث 20-10-2018 | 00:00
No Image Caption
سعد المجنون

فقدت ذاكرتي..

قالوا لى:

- اسمك سعد!

تهت في الشوارع أبحث عن مكان أبيت فيه ليلتي، علّني في الغد أستعيد هويتي وبعضاً من ذاكرتي.

مررت من أمام مقهى يعج بالرواد الشباب من الجنسين، يدخنون النارجيلة برشفات متتالية، ينفثون دخانها الكثيف بفخر واعتزاز، عندما لمحوني، صاح أحدهم وأشار بإصبعه إليّ وعلى وجهه علامات التعجب وكأنه وجد شيئاً ثميناً:

- انظروا! انظروا! هذا هو سعد المجنون!

وبدأوا بالضحك والتصفيق، وبصوتٍ جماعي راحوا يغنون:

- مجنون.. مجنون.. يا سعدون.

تابعت سيري غير آبه لما يفعلون وقلت في سرّي:

- هنيئاً لي لقد وجدت سبيلي، سأختار الليلة ذاكرةً جديدة ووطناً جديداً ولكن في عالم آخر.

ها أنذا ألاقي حتفي مردداً: مجانين.. مجانين..

هذا ما قاله سعد في ليلته الأخيرة.

نقلت جثة سعد إلى براد الموتى في إحدى المستشفيات القريبة من المكان حيث وجده عمال النظافة قرب مكب النفايات بجانب بناية سكنية.

عمّ الخبر في شارع الحمراء فتأسف عليه الكثيرون ممن كانوا يعرفونه، كأصحاب المحلات التجارية والمطاعم وبالأخص رواد المقاهي، ومنهم من لم يكترث بهذا الخبر، لقد أصبح سعد من معالم ذلك الشارع، فمن لم يشاهده وهو ذاهب إلى محلة الروشة يلمحه وهو عائد منها.

نبيل، أحد رواد تلك المقاهي. قرأ خبر وفاة سعد في إحدى الجرائد فتأثر كثيراً لموته بهذه الطريقة المؤلمة، كان مع أحد أصدقائه منذ فترة قصيرة في المقهى، وعند مرور سعد تعرّف إليه ذلك الصديق وأخبره بأن سعد المجنون من أبناء بلدته، فاتصل نبيل على الفور بذلك الصديق وأنبأه بالخبر.

هذا الصديق قريب (وسيـم صهر سعد)، أرسل في نفس اليوم رسالة شفهية إلى وسيم يعلمه بوفاة سعد وتم ذلك مع أحد التجار المقيمين في القرية، الذين يأتون إلى بيروت للتسوق بموجب ترخيص مرور من ميليشيات جيش لبنان الجنوبي. وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للاتصال بين سكان الشريط الحدودي وبين أهاليهم في بيروت.

جيش لبنان الجنوبي أنشأته إسرائيل ضمن الحزام الأمني المحتل الذي أقامته في قسم كبير من جنوب لبنان ليكون البديل عنها في ردع العمليات الهجومية عليها من المقاومة اللبنانية الوطنية والإسلامية، التي أقلقت قواتها وكبدتها العديد من الخسائر في المعدات والأرواح . فهذه المقاومة كانت تلقى الدعم والحماية من جميع أبناء الجنوب والأحزاب اللبنانية ومن أغلبية اللبنانيين.

كان بعض المواطنين من سكان الحزام الأمني يخرجون من الشريط الحدودي ويعودون بموجب تصاريح مسبقة من هذا الجيش.

وصل الخبر إلى وسيم، فكان وقعه عليه كالصاعقة وأما زوجته سعاد (أخت سعد) فقد أغمي عليها من هول المصيبة.

بعد محاولات حثيثة مع الصليب الأحمر الدولي استطاعت العائلة أن تستحصل على الموافقة بنقل جثمان سعد ليدفن في مسقط رأسه.

تم نقله بواسطة سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر.

دفن سعد في مقبرة قريته، قرب أضرحة والديه وأخته، الذين قضوا أثناء القصف في الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان في العام 1978.

لقد بقيت صورة سعد في ذاكرة أعز الناس لديه يستذكرونه ويسترجعون أيامه وعلاقتهم معه وهم أشخاص ثلاثة: سارة (حبيبته الأخيرة) وإبراهيم (صديقه الوفي) وأخته سعاد التي لم يغادر الحزن قلبها.

فكان لكل منهم حكايا وقصص معه لا تنسى.

1- سارة:

بعد آخر لقاء لها مع سعد كانت متأكدة من أنها لن تراه إلى الأبد، فهي قد دخلت إلى أعماقه الإنسانية، وهي من بداية معرفتها به انتابها شعور غريب فهي المتخصصة في علم النفس، سمحت لوعيها الفكري بأن يتسلل سعد إلى داخلها وجعلت منه مادة أساسية في مدرستها، تعلّمه وتتعلم منه في كل مرة تلتقي به حتى أوصلته إلى الدرجة التي تريدها، ثم أخذت منه كل الصفات الإنسانية والأخلاقية حتى استطاعت أن تسكنه شغاف قلبها، حيث نحتت منه تمثالاً يرمز للشهامة والوفاء والرجولة.

هي التي نشأت وتربت وسط عائلة يهودية شرقية في فرنسا وتتلمذت على يد جدها اليهودي اللبناني البيروتي الأصل وغبّت من نبعه من خلال ذكرياته في وطنه الأم قبل أن يهاجر مكرهاً إلى فرنسا في العام 1958، فارتشفت من حنينه إلى وطنه الأصلي لبنان حتى ارتوت.

خسرته وحزنت على فراقه وظلّ سعد وذكرياته معها لا يبارحان مخيلتها كلما اختلت إلى نفسها، والأيام تمرّ ولم تعد تعرف مصيره منذ أن رسم لنفسه خريطة الطريق بعيد لقائهما الأخير.

خسرته وحزنت على فراقه ولكن طيفه ما زال يرفرف حولها بين الحين والآخر.

2- إبراهيم:

فقد أباه منذ طفولته ومن بعده فقد أمه التي بموتها كره الحياة وها هو الآن يفقد أعز صديق وفيّ قابله في حياته.

الصديق الذي بسببه أحب الحياة، فقد نذر نفسه وعاهدها بأن يبقى إلى جانبه طوال حياته.

لقد كان سعد سبب ثروته الضخمة، وهو من أنقد حياته عندما حاول الانتحار بعدما جاءه خبر وفاة أمه.

لم يترك وسيلة للبحث عن سعد حين انقطعت عنه أخباره، ثم أكلته الحسرة لمّا وصله خبر وفاته متأخراً، غابت البسمة عن محياه وأقام له العزاء وبقي حزيناً لفترة طويلة، وبقيت صورته وذكرياته لا تبارحه أبداً لأنه أصبح ‏ جزءاً متجذراً في كيانه.

حاول الاتصال بوسيم زوج أخت سعد (سعاد) ولكن محاولاته باءت بالفشل بسبب وجود هذا الأخير في منطقة الحزام الأمني في جنوب لبنان.

استحصل على الجنسية الإفريقية من البلد الذي يقيم فيه، وكان هذا الأمر صعباً للغاية في ذلك الوقت لكنه حصل عليها بسهولة لأنه صهر الرئيس، والصهر (سند الظهر)!!.

كبرت تجارته وأصبح من كبار الأغنياء ومن ذوي السلطة وازداد حجم ثروته بعد اكتشاف النفط في تلك الدولة، وقد أنجب من لولا (زوجته) الإفريقية العديد من الأولاد ذكوراً وإناثاً. فكانت زينب باكورة أبنائه، وقد سمّاها بهذا الاسم تيمناً باسم والدته.

3- سعاد:

أخته، الوحيدة التي بقيت من عائلته على قيد الحياة، كانت الخاسر الأكبر. إذ فقدته، بعد موت أبيها، واستشهاد أمها وأختها سلوى اللتين استشهدتا في العام 1978 إبان الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان كما أسلفنا. لقد كان سعد الأخ الوحيد الباقي لها.

أصيبت بصدمة نفسية، ذلك بعد إسقاط حملها مرتين وأصابها اكتئاب شديد وخوف من الحمل مجدداً بعد علمها بأنها مصابة بمرض تورم ليمفاوي في الرحم وبعد المعالجة نصحها الأطباء بالتوقف عن الحمل لفترة كي يتم العلاج وعليها أن تحاول التغلب على أي ضغط نفسي. وبعد انتهاء فترة المعالجة حملت مرة أخرى وكانت تتقيد بإرشادات وتوجيهات طبيبها بالمعاينة الدورية والاهتمام بنفسها.

عندما جاءها خبر موت شقيقها سعد كانت حاملاً في شهرها الثامن عادت إلى حزنها إلى أن رأت أخاها سعداً يأتيها في المنام قائلاً لها:

لا تحزني عليّ واهتمي بصحتك وحافظي على جنينك فأنا سأعود إليكم قريباً وأن روحي الآن تنتظرك إلى حين تلدين، سترزقين بولد، وعليك أن تسميه سعداً.

back to top