فرج

نشر في 20-10-2018
آخر تحديث 20-10-2018 | 00:00
No Image Caption
وصول بدو قبيلة داحي

في ضحى أحد الأيام الصيفية الحارة في ظويلم، دخل أحد العبيد إلى عمارة سيدي متوتراً، سَلَّم على الجلوس ثم اتجه إلى سيدي وهمس في أذنه، ثم وقف ناظراً إليه كأنه ينتظر رد فعله على ما أخبره. رأيت سيدي ينظر إلى الأرض يهز رأسه كأن مصيبة حلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله».

أثار المشهد الغامض قلق الموجودين في المجلس. بادر أحد الوجهاء متسائلاً:

«خير يا أبو محمد؟».

رد سيدي: «خربت ظويلم يا جماعة!!».

زاد ذلك الرد من حدة التوتر في المكان. قال أحدهم: «لا قدّر الله! ماذا حدث؟».

قال سيدي: «أي خير تتوقعون وقد جاءكم بدو داحي، أبشروا بالخراب. هل تتوقعون أن الغاصة هذه السنة ستدخل البحر، والبدو يحتلون المدينة، إنهم كالعادة سينتظرون خروج الرجال لكي يبدؤوا السرقة المعتادة للحيوانات والطعام والعبيد!».

أضاف أحدهم: «صدقت!، السنة الماضية، انتظر هؤلاء البدو حتى نزل الجميع إلى البحر للغوص، بعدها كانت ظويلم تُسرق ليلاً ونهاراً حتى اضطررنا للعودة من البحر كي نخرجهم من المدينة بالقوة. هذا أمر خطير، ونرى أنه يجب أن نعمل شيئاً وإلا فإن ظويلم ستخرب!».

خيم على المجلس جو من الكآبة والقلق والتوتر، وبان ذلك على وجوه الجميع. قال أحد الجالسين: «هذه القبيلة مثل القرادة التي تغزو جسم الجمل الكبير فتشرب من دمه وتتكاثر حتى تقضي عليه إن غفل عنه صاحب الجمل. هذه الحشرة الصغيرة مصاصة الدم شرهة تأخذ ولا تعطي شيئاً، ولا يعرف أفراد هذه القبيلة شيئاً من فنون الحياة إلا السرقة!!».

قال أحد الوجهاء: «لا يمكننا أن نتركهم هكذا في البلدة ونحن نعرف النتائج مسبقاً من وجودهم بيننا لن يكون إلا الخوف».

رد عليه آخر محاولاً وضع حل لهذه المصيبة التي حلت: «إنهم فقراء وجوعى، يمكننا أن نمنحهم بعض المال وبعض الطعام ونطلب منهم أن يعودوا من حيث أتوا».

ولكن هذا الحل نظر إليه البعض أنه مكلف وخاصة أن موسم الغوص يحتاج إلى كل درهم لتمويله من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هذه القبيلة إذا أحست بأن وجودها يؤدي إلى منحها المال فما الذي يضمن أنها لن تأتي في السنة مرة أو مرتين أو أكثر للحصول على تلك الغنيمة المجانية. ازداد قلق الحضور فأحسوا بأن الحل الذي طرح لم يكن إلا صب زيت إضافي على نار يتمنى الجميع إخمادها. خيم على المجلس سكون دفع الجميع في سحابة من الهم والقلق والتفكير على مصير البلدة ومجيء هذه القبيلة التي لا يتوقعون منها إلا المشاكل والأضرار. انفض الجميع من المكان وبقي سيدي مهموماً يقلب الأمور والحلول لعله يصل إلى شيء يضع الجواب لهذه المصيبة التي خيمت على ظويلم.

مساء ذلك اليوم أصابني فضول لكي أتجه إلى حيث نزلت هذه القبيلة. فقد اختارت جنوب ظويلم مكاناً لها. عندما وصلت إلى المكان وجدت عشرة جمال وخمس خيام مهلهلة في حالة سيئة تجمّع تحتها رجال القبيلة الذين قدرت عددهم بثلاثين رجلا أشبه بهياكل عظمية غطيت بطبقة من الجلد الداكن، أوقدوا ناراً لطهو القهوة كانت ترسل دخانها الباهت من تلك الخيام الممزقة. اتجه بعضهم إلى البلدة حيث كانوا يسألون الناس الطعام أو المال. كان الناس يخافونهم ويحترزون منهم، ومن إثارتهم كما لو كانوا حيوانات ضارة تقترب من البشر طالبة الطعام فإن لم يجد ذلك الحيوان ما يطلب فيضطر أن ينهش حاجته من الطعام من جسم الإنسان.

علمت أن موطن هذه القبيلة يقع خلف صحراء الموت البعيدة إلى أقصى الجنوب حيث لا أرض أو بشر بعد تلك الصحراء. يتكاثر أفراد القبيلة كما تتكاثر الجراد، إن استطاع سرب الجراد أن يجتاز الصحراء إلى السواحل وإلى حيث بلاد البحر والغوص فإنها ستعيش لا محالة، وهكذا أفراد داحي.

كسبت هذه القبيلة سمعتها السيئة لما عرف عنها من غدر وعدم توانيها عن سرقة أي شيء تصل إليه يدها، وهي قائمة طويلة من الأشياء، وتشمل الحيوانات والبشر الذين كانوا يباعون كعبيد في بلدات بعيدة عن ظويلم.

كنت أحاول أن أتخفى خلف شجرة سدر قريبة من إحدى الخيام، فكنت أسمع جلبة ونقاشاً محتداً أثار مخاوفي ودفعني للهروب بعيداً قبل أن يقع عليّ شر. كان النقاش حول سرقة العبيد من ظويلم! قال الرجل: «إن العبد يمكن أن يباع بمئات الدراهم بينما الجمل لا يباع بأكثر من عشرة!».

قاطعه بدوي آخر: «ولكن الجمل تستطيع أن تحمل عليه عبدين، فالجمل قبل العبد!! هكذا تعلمنا أيها البدوي الجاهل!».

أحسست بأنهم إذا أحسوا بـي في تلك اللحظة فلن يفلتني أحد من جوارهم حتى أكون بضاعة. أسرعت مبتعداً عن المكان وقلبـي يخفق رعباً من نوايا هذه القبيلة التي تظهر المسالمة ولكنها تخطط لشيء رهيب.

مرت الأيام وسكان ظويلم يعيشون تحت وطأة الكرم الإجباري المكره، يرسلون الطعام والثياب وبعض الأحيان المال حتى يؤخروا خروج الشر الذي تخفيه قبيلة داحي. ولم يستثن بيت في ظويلم من الميسورين أو المعوزين من المساهمة في ذلك الكرم الإجباري.

الاستيلاء على ظويلم

جاء الشيخ ضرار إلى سيدي ذات يوم في وقت مبكر قبل أن يتجمع وجهاء ظويلم في المكان. جلس قريباً من سيدي وكأنه يحرص ألا ينتقل الحديث خطأ إلى شخص ثالث. دار حديث طويل، إلى أن انفض النقاش على كلمة سيدي التي لم يبال أن يحملها الهواء إلى شخص ثالث قائلاً: «أنت حر في مالك وحلالك وأنا حر في حلالي ومالي... أهل ظويلم أهلي وإخواني!!!».

ساد هدوء بين الاثنين بينما كانت العيون شاخصة غاضبة تتبادل النظرات في تحد لا ينقصها الإصرار على أنها ماضية فيما قررت عليه. خرج الشيخ ضرار على هيئة لم تدل على أنه كان مسروراً من نتيجة التفاوض.

فجر اليوم التالي كان سيدي يشرب قهوته المعتادة، رأيته ساهماً سارحاً في أفكار لم تكن سارة له بل بدا عليه الاكتئاب واضحاً. منحت نفسي الحق أن أسرّي عنه وأخفف من قلقه. قلت له: «كل شيء يهون يا سيدي إلا زعلك».

ظننت أنه لم يسمعني من شدة انشغال فكره، كان سارحاً بعقله ونظره، شاخصاً إلى لا شيء رغم أنه كان ينظر في اتجاه النافذة، ثم قال:

«خربت ظويلم يا فرج!! الشيخ ضرار لا يعجبه أن نمول الغاصة مثل كل عام. اعتاد النواخذة أن يمولوا ذهابهم إلى البحر مقابل درهم لكل عشرة دراهم، وطلب مني أن أضاعف فائدة القرض! ولم أوافقه على طلبه. وطلب مني أن أشترط أن يُعرض المحصول الذي يعود به الغاصة علينا أي الممولين ولا يُباع في عرض البحر للطواشين، ورفضت، فخرج غاضباً كما رأيته بالأمس. والشيخ ضرار غضوب يخفي حقده وانتقامه ويكمن للانتقام ولا ينساه، وفي الوقت المناسب يأخذ الحساب كاملاً».

انتظرت سكتة في حديثه حتى لا أقاطعه بكلامي الذي كنت أريد قوله: «سيدي الشيخ ضرار لن ينجح في مسعاه، فمن يستلف منه إذا كان سيزيد في الفائدة؟».

نظر إلي نظرة عابرة وعلى وجهه ابتسامة تقول لي كم أنت ساذج وجاهل يا فرج:

«أنت جديد في ظويلم، ولا تعرف الشيخ ضرار، إنه لا يتنازل عن شيء، يأخذ ما يريد حتى لو امتنع كل من يعيش في ظويلم، فهو يرى نفسه الشيخ الذي لا يُرد له طلب، لا يخدعك القناع الذي يلبسه عندما يدخل علينا المجلس كل يوم، فإنه قادر على إخفاء كل ما يشينه، وإبراز عكس ما هو عليه».

قلت متسائلاً: «وهل يستطيع أن يمنعك الشيخ ضرار أن تتصرف في مالك كما تراه عدلاً وإحساناً لأهل ظويلم؟».

أخذ سيدي زفرة عميقة أجابت عن تساؤلاتي الساذجة، رفع يده تجاه سويّد الذي كان يحمل دلة القهوة منتظراً هذه الإشارة منذ مدة، فصب له فنجان قهوة، والتقت فوهة الدلة بطرف الفنجان لتحدث الرنة المعتادة لمن يصب له القهوة كي يأخذ طلبه. شرب ما في الفنجان بسرعة وقام من مجلسه، فقمت مسرعاً في اتجاه الباب أقرّب إليه نعله. خرجنا من باب البيت، ركب فرسه التي كانت جاهزة، وركبت حماري بجانبه وانطلقنا في اتجاه السوق، التفت إلي قائلاً:

«يا فرج إن كمن لك ذئب خلف صخرة وأنت لا تعلم بوجوده في الصحراء كيف تحمي نفسك من هجمة أنت غير مستعد لها؟ الشيخ ضرار أشبه بهذا الذئب الذي لا يجرؤ على الهجوم إلا إذا غفلت وتاه عنك الانتباه».

كنا نقترب من بعض المنازل التي كانت في طريقنا، أطلت عجوز من باب منزلها، فرأت سيدي، وبادرت بالسلام: «الله يصبحك بالخير يا طويل العمر»....

تمهل في مسيرة فرسه إلى أن أصبحنا أمام الباب، ورد سيدي: «الله يصبحك بالخير يا أم سعد، كيف حال الشيبة والعيال؟».

فردت: «بخير يسرك حالهم، تفضل، تقهوه».

يعتبر رد أو رفض دعوة شرب القهوة عند العرب لؤم وبخل، أو قد يعبر عن الإهانة والعداوة، وربما هو إعلان حرب. لم يتجاوز سيدي المكان ووقف إلى أن جاءت الدلة من داخل البيت يحملها أحد أحفادها الذي كان في الثامنة عشرة من عمره، وصب له القهوة ولكنه لم يصب لي!! فلم أكن في نظره سوى عبد تنزاني أرافق سيدي رغم ملابسي الغالية وخنجري الفضي، وحماري الغالي!! التفت سيدي إلى العجوز قائلاً: «قهوة دايمة».

ورمقني بابتسامة كأنها تقول: عليك العوض في القهوة. جر لجام فرسه واتجهنا إلى السوق. لم أنس السؤال الذي وجهه لي سيدي، كيف أتقي الشر من حيث أجهل؟ ولا أعلم؟ قلت له: «أقلها يا سيدي أنني سأقاوم ولن أستسلم ببلادة وعجز لأسنان الذئب، فأنا ميت لا محالة، فلن يؤذيني أكثر أن أسبب له ما أستطيع من أذى، ليعلم أن فريسته التي فاجأها وقضى عليها كانت عنيدة».

نظر سيدي إليّ كأنما فاجأه الجواب، لأنه لم يكن يتوقع مني الدخول في جدل يخص صراع الأسياد!! علق على كلامي قبل أن ينزل عن فرسه:

«كلامك يعجبني يا فرج، أتمنى أن نفاجأ بالذئب كما ذكرت. ذئبنا الشيخ ضرار ماكر وأناني لا يعجبه أن يزاحمه الناس في المال أو التحكم في الناس وهو عبد مخلص للمال والحكم، لذا فإنه حريص على أن يكون متفرداً بالمال والسيطرة في ظويلم، لأجل ذلك لا يعجبه أن يشاور الناس في أمر من الأمور، بل سيعجبه أكثر لو أمر الناس وأطاعوه!!».

بعد عدة أيام عاد الشيخ ضرار إلى مجلس سيدي وكأنه لم يكن هناك قضية أو مسألة أثارت غضبه في زيارته السابقة، يتحدث بهدوء تام ممزوج ببعض المرح والدعابة، وأخفى غضبه الذي مضى بقناع سميك من التمويه.

back to top