قرصة على خد الخسارات

نشر في 15-10-2018
آخر تحديث 15-10-2018 | 00:05
 فوزية شويش السالم الشعر برأيي لا يُنقد، لا يُشرح، ولا يُفسر، مثله كاللوحة والموسيقى، وخاصة الشعر الحديث. ربما الشعر الجاهلي وشعر المعلقات، وما بعدها، المرتبط بحكايات وحوادث وقصص لأمكنة وتواريخ وشعر القضايا، يحتاج إلى الشرح والنقد، لأنه يتضمن مواضيع وأمورا مختلفة يجب إنارتها وتبيانها.

الشعر الحديث إما أن يحكي مشاعره تجاه أمر يخص الشاعر، أو تراكيب شعرية فنية جميلة، أو يكون شعرا أبعد من تجربة المشاعر، أو شعرا يذوب بكينونة أكبر من ذاته، أن يصبح ذرة في "يونيفيرس" هذا الكون الشاسع في وهجه وأنفاسه.

ديوان "قرصة على خد الخسارات"، للشاعرة المغربية رجاء الطالبي، تجاوز الذات، وبات يدور في وحدة كونية أكبر وأشمل وأوسع من ذات محدودة صغيرة.

الشعر هنا للتأمل والتنسك والبحث عن جوهر الوجود، لغته آتية من روح شفافة رقيقة حانية، محمَّلة بأشجان الوجود، بأسئلة الحياة، بالنفس الذي يروح ولا يعود.

لا يكفي قراءة الديوان مرة واحدة، بل يستحثك على استعادة قراءته مرة تلو الأخرى، شعر امرأة حنونة رقيقة تشتهي رفقتها، وتستمتع برشف صمت صداقتها، وتحرض روح الشعر بداخلك، فكيف تقبض عليها: "لست هناك/ لم أكن هنا/ إلا لأن ناراً/ وعدتني بأجنحة".

ذابت روح الشاعرة في نسغ الأشجار وتربتها، والشفق في غسقه، والطبيعة بعريها وامتلائها بصخبها، وسكونها، وشجن بوحها، وغموض صمتها.

رجاء الطالبي بهذا الديوان شعرها كان رئة تنفسها في شهيقها وزفيرها، وما بين عمق أنفاسها تفتحت القصائد، ففي ديوانها السابق تغلب عليه بوح الأحاسيس الأنثوية، فكان أبجدية للجسد، لكنها بهذا الديوان روحها القلقة تفتش عن مسارها وأسئلة وجودها، وهو السمة الغالبة على الديوان: "لم أعد أئن تحت وطأة الليل/ انتصرت على اليقين./ أحاطني سلام/ كما جبل يودعُ آخر لمعة من الضوء/ لا يئن تحت ثقل الليل".

رجاء غزلت الطبيعة، بكل ما فيها، من شمسها وبحرها وهوائها ونهرها وشجرها وليلها ونهارها بمشاعرها، حتى باتت لوحات فنية شعرية: "كان بأعماقنا صمت عميق/ يسمعُ عبور مجرة/ في طريقها نحو فراغ الليل".

"لأن الذاكرة ماءٌ/ يفلتُ من بين الأصابع،/ كل ماءٍ يتحلل".

واضح جدا توحدها وانصهارها واندماجها مع الطبيعة، لم يعد هناك فرق بينهما، تماهت الأحاسيس وتمازجت، حتى باتت انآهما واحدة تقمصت أفراح وأحزان بعضهما البعض، وباحت في تعبيرات ملتبسة لا تدري إن كانت الطبيعة هي الشاعرة، أم الشاعرة هي الطبيعة، حتى بات جيشان الهواء ضوء الروح، والفجر المتلعثم يطرد كآبة المساء، وعمق العتمة في ظلام الصمت، وهسيس الأشياء انفلش على حقول الضوء، وخطوط ندوب النهار الناعمة على صباح رمادي، كلها رسومات للوحات رائعة: "هزار في البعيد يمسحُ بشرة الشحوب،/ ضارب في نجواهُ رمادي الأغصان الغامق/ يحدق مبهوراً إلى أنفاسِ/ المتعذر قوله تحلق/ من يملك البعيد ليتناول/ هذا المستعصي ينأى في انفلاته".

عندما تصبح ذات الشاعر هي الكون يبات الشعر خارج الذات، حتى وإن كان يعبر عنها، لكنه تقمص ذاتا أعظم، وتماهى في عظمتها، حتى وإن كان يغزل من معطياتها أحزانه في صورة شعرية مذهلة: "خذ من أجل فرحك حاضري المتوحش/ قلادة يابسة من نحل ميت/ حول العسل شموسا".

"أجهل غابات القرفة/ لكنني أرى شمس المساء/ ترتعش كموسيقى،/ أو كفضاء للقلب/ جعل منه الزمن ذخيرةَ النحل".

"على البياض/ أطرزُ بدون إبرة ولا خيطٍ/ أغسلُ أكوي أشياء/ الزمن العابر،/ جريان الحكي في الكلمات/ أو توقفه".

هذا الديوان صورة للوحدة الكونية، فالإنسان والشجر والطير والبحر والنهر، والشمس والظلال والجمال والموت والولادة، كلها دورة واحدة في وحدة كون عميق شاسع، حتى وإن كانت هناك أحزان وأوجاع، فهي جزء من روح هذا الخلق الكبير: "تمنح نظرتي الشجرة الجمال، بدون هذه النظرة، بدون اللسان الذي يلهج بجمالها هل يكون لوجود الشجرة معنى، يولد الجمال اذن من هذا الحوار الصامت، من خرقِ الصمت، ومن رجوعه، تُنادي عليك هذه الحجارة في ماضيها السحيق، أمام نظرتك يتقلب غموضُها الصامت، وببطء من هذا الحوار يتولد الجمالُ، يتفجر المعنى، ما يقرأ من خطوط فمها الصامت".

وحده الشاعر فقط يفهم هذه الحالة: "مكتظة حد الحبسة/ تنظرُ لغتي بأعين بيضاء،/ مكتظة حد عسر الصرخة،/ يجري يجري/ يجيشُ حد الفيضان/ المعنى الذي انتظره".

back to top