فك الارتباط مع غزة بعد 13 عاماً... والفرصة الضائعة

نشر في 13-10-2018
آخر تحديث 13-10-2018 | 00:01
تظاهرات في غزة
تظاهرات في غزة
حتى في أسوأ الكوابيس، لم يكن متصوراً أن تصبح غزة كما هي عليه اليوم بعد 13 عاماً من فك الارتباط مع إسرائيل حيث باتت مكاناً ممزقاً بالانقسامات السياسية الفلسطينية المريرة وثلاث حروب بين حماس وإسرائيل وحظر خانق وعزلة شبه كلية عن بقية العالم.
في هذا العام من الصعب تصوُّر وجود رؤية قائمة في غزة مختلفة عن تلك الحالية المعروضة في الأخبار، والتي يعيشها سكان غزة يوميا، ولكنني كنت عضوا في مجموعة متفائلة من التكنوقراط الذين أعدوا خريطة طريق واضحة لغزة بعد فك الارتباط الأحادي من إسرائيل عام 2005، ثم راقبت تداعي تلك الخطة. تشكل العبر المستخلصة من تلك الفترة حول أسباب فشل هذه الرؤية الأكثر تفاؤلا لغزة جزءا لا يتجزأ من المحادثات الأوسع حول النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، ومضاداً مهماً لسيرة تبين تصاعد حماس والعنف اللاحق على أنه أمر محتم. ولكن من الأساسي للاعبين الدوليين والإقليميين على حد سواء أن يفكروا في التجارب الفاشلة المتعلقة بالمساعدة التقنية لغزة فيما تستمر جهود الأسرة الدولية لإيجاد حل لأزمة متفاقمة.

مغادرة إسرائيل لغزة

في 12 سبتمبر 2005، كنت من أوائل الذين دخلوا المستوطنة اليهودية نتساريم التي تم إخلاؤها، جنوب مدينة غزة مباشرة، فيما آخر الجنود الإسرائيليين يغادر غزة. وعند شروق الشمس، كنت في غوش قطيف، أكبر كتلة مستوطنات إسرائيلية على طول ساحل غزة الجنوبي الجميل المطل على البحر المتوسط. ومن هناك، توجهت إلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي الذي تم إخلاؤه أيضا واختتمت نهاري في المستوطنات الثلاث الصغيرة التي تم إخلاؤها وهي دوجيت ونيسانيت وعيلاي سيناء، على طول السياج الشمالي بين غزة وإسرائيل وفي منطقة بيت حانون/ إيرز الصناعية.

عمل فريقنا أيضا بتنسيق وثيق مع البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات دولية أخرى تعمل في المناطق الفلسطينية.

بعد شهرين من الانسحاب الأحادي الإسرائيلي من غزة، في 15 تشرين نوفمبر، توسطت الولايات المتحدة لعقد اتفاق التنقل والعبور بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وقد عزز هذا الاتفاق على ما يبدو إلى حد كبير آفاق التنفيذ الناجح لخططنا التقنية المتعلقة بغزة ما بعد فك الارتباط. صمم اتفاق التنقل والعبور لتحسين معاملات غزة التجارية العابرة للحدود مع إسرائيل، ما يتيح مرورا آمنا بين غزة والضفة الغربية. كما سهل اتفاق التنقل والعبور عمليات التصدير الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية السابقة التابعة لغزة وفصل الاستراتيجية التشغيلية لمعبر رفح الحدودي المراقب من الاتحاد الأوروبي وسمح باستئناف المحادثات المتعلقة ببناء ميناء غزة وإعادة بناء مطار غزة الذي دمر خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 سبتمبر عام 2000.

تلاشي الآمال

سرعان ما تبددت آمالنا وتطلعاتنا كتكنوقراط لبدء فصل جديد من تاريخ غزة. فالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني الأوسع والسياسات الفلسطينية الداخلية أثبتت أنها أقوى من خططنا التقنية المتعلقة بغزة. ونحن لسنا بسذج، إذ لم نتوقع تنفيذ خططنا، أو في هذه الحالة اتفاق التنقل والعبور بذاته، بسهولة وسلاسة. ولكن حتى في أسوأ كوابيسنا، لم نتصور غزة كما هي عليه اليوم بعد 13 عاما من فك الارتباط، أي مكان ممزق بأكثر من عقد من الانقسامات السياسية الفلسطينية المريرة وثلاث حروب بين حماس وإسرائيل وحظر خانق وعزلة شبه كلية عن بقية العالم. بنتيجة ذلك، يعاني سكان غزة اليوم من ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي وتداعي الخدمات الأساسية والبنى التحتية العامة وتراجع اقتصاد القطاع الخاص والانتشار الواسع لليأس والإحباط الكلي بين سكان غزة الذين يبلغ عددهم مليونين.

وقائع فك الارتباط

قادت مجموعة عوامل إلى هذه النتيجة المؤسفة، بما فيها بشكل أساسي مقاربة إسرائيل وحماس لخطة فك الارتباط وتطبيقها وكيفية عرضها.

من الجانب الإسرائيلي، بالرغم من أن خطة إخلاء غزة، التي فاجأت الجميع عندما تم الإعلان عنها للمرة الأولى في ديسمبر من عام 2003 من رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، اعتمدت بشكل كبير على مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، فإن انسحاب إسرائيل من غزة كان أمرا محتما، وهي نقطة غالبا ما يتم تجاهلها في الكتابات المعنية بفك الارتباط عن غزة. وبخلاف الضفة الغربية، لم تبرز قط آفاق الاحتلال الإسرائيلي لغزة على المدى الطويل أو تعتبر حتى منطقية من الناحية الاستراتيجية، فلا الجغرافيا ولا الديموغرافيا الخاصة بالمنطقة تسمح بوجود إسرائيلي مطول وسط سكان فلسطينيين شباب ومتطورين مقيدين في أراض صغيرة. وتشكل غزة في نهاية المطاف جزءا صغيرا من الأراضي، ومن أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، إذ كان عدد سكانها عند فك الارتباط 1.3 مليون، مع زيادة سنوية بـ3.5 في المئة. وعلى ضوء هذه الوقائع، كان فك الارتباط الاسرائيلي في الواقع متوقعا على المستوى الاستراتيجي، إذ إنه كان مسألة وقت فحسب.

بالمقابل، قدمت حماس من جهتها فك الارتباط كنصر، عبر تبرير فعالية مقاربة المقاومة المسلحة الخاصة بها التي نجحت في «تحرير» غزة. ولم يكن واقع أن الخطوة الإسرائيلية لم تكن مكتملة مهماً بالنسبة إلى «حماس» (بعد فك الارتباط، أبقت إسرائيل على سيطرة حصرية على فضاء غزة الجوي ومياهها الإقليمية وسجل السكان الفلسطينيين والفضاء الكهرومغناطيسي ودخول وخروج السلع والأشخاص من وإلى غزة، باستثناء حركة الأشخاص عبر معبر رفح الحدودي مع مصر).

في اندفاعها للاستفادة من إنجازها المعلن المتمثل في انتصار المقاومة، تنافست «حماس» مع حركة فتح العلمانية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي عقدت في يناير من عام 2006 وفازت في النهاية، مما شكل مفاجأة للجميع.

وهكذا، ومع خروج آخر جندي إسرائيلي من غزة في ساعات الصباح الأولى في 12 سبتمبر2005، تم إغلاق غزة في الواقع وتسليمها إلى حماس. وأصبحت عملية التسليم رسمية عبر الانتصار الانتخابي المزلزل لحماس بداية عام 2006، وتم تأكيدها بعد ذلك منتصف يونيو 2007 مع استيلاء حماس العنيف على قطاع غزة برمته. وكما أظهرت السنوات المأساوية اللاحقة، أخذ وضع غزة بالتراجع مذاك.

فرصة ضائعة

بما أن إسرائيل وحماس قامتا بتظهير فك الارتباط كوسيلة لخدمة مصالحهما السياسية الخاصة، لم يكن هناك مجال كبير، هذا إن وجد أصلا، لإنجاح فك الارتباط من خلال الجهود الدولية الرامية إلى توفير منافع اقتصادية ملموسة لغزة، وقد كانت هناك عدة محاولات في هذا السياق. قاد البنك الدولي هذه المساعي في ديسمبر من عام 2004 عبر توفير مجموعة أوراق تقنية حول تحديث معابر غزة الحدودية مع إسرائيل وإنشاء مناطق صناعية ومناطق تصدير وجعل الاقتصاد الفلسطيني تنافسيا. وفي 14 أبريل 2005، تم تعيين الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس وولفنسون كمبعوث خاص للجنة الرباعية حول الشرق الأوسط لفك الارتباط عن غزة. وبعد شهرين، في يوليو، تعهدت قمة مجموعة الثمانية التي عقدت في غلين ايفلز في اسكتلندا بتقديم دعم مالي يصل إلى 3 مليارات دولار سنويا على مدى ثلاث سنوات لمساعدة وولفنسون على إنجاز مهمته. وتضمنت مبادرات أخرى للقطاع الخاص مخصصة لغزة استثمارات في المستوطنات الإسرائيلية السابقة في جنوب غزة، وفي منطقة بيت حانون إيرز الصناعية في الطرف الشمالي لقطاع غزة.

تبدو هذه الجهود الدولية، التي تشكل جزءا من بدايات تاريخ فك الارتباط، ذكرى بعيدة اليوم، إذ تم تضييعها في ظل الدمار الذي لحق بغزة في الماضي القريب. فلو تسنت فرصة ترجمة هذه الجهود على أرض الواقع إلى أقصى درجة، كانت لتقدم لغزة فرصة جيدة بمستقبل مختلف، إلا أن ذلك لم يحصل. وبما أن إسرائيل وحماس لديهما حكايات متناقضة حول فك الارتباط، فإن الفشل كان شبه محتم. بالإضافة إلى ذلك، كانت الجهود الدولية ذات طبيعة تقنية محضة، وكانت بالتالي غير ملائمة بطبيعتها للتعامل مع «مسألة غزة» المترسخة بعمق في سياق نزاعات شديد التعقيد. وسرعان ما اصطدمت هذه الجهود الدولية بحائط مسدود عند انهيارها في يناير 2006، مع صعود حماس المفاجئ إلى السلطة، وأعلن لاحقا عن فشلها مع استيلاء حماس المسلح على غزة في منتصف 2007.

عبر مستخلصة

لم تغير خطة فك الارتباط سوء الحظ المستمر اللاحق بغزة. قد تعزى هذه النتيجة إلى أسباب متعددة. ولكن يمكن استخلاص عبرة واضحة: من غير المرجح أن تنجح الحلول التقنية لمشاكل غزة المعقدة، ما لم يتوفر سياق سياسي وأمني داعم. نحن مدركون أصلا لهذا الواقع، ولكن يبدو أن هذه العبرة وتداعياتها على مستوى السياسات غير مفهومة جيدا اليوم. على سبيل المثال، بالرغم من الإدراك المتزايد بأن تردي ظروف العيش في غزة يقترب بسرعة من نقطة الانهيار أو قد بلغها أصلا، فالحلول التي يتم تقديمها، سواء من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أو الإدارة الأميركية الحالية، تتخذ كلها شكل «قائمة مشاريع عملاقة» تهدف إلى إنقاذ اقتصاد غزة المتداعي. ورغم دورها المحوري في معالجة الصعوبات الاقتصادية الاجتماعية المتزايدة في غزة والنقص المزمن في خدماتها العامة الأساسية، لا يمكن، انطلاقا من خبرة غزة ما بعد فك الارتباط، تنفيذ هذه المشاريع وتحقيق كامل إمكاناتها، إلا إذا استقر الوضع السياسي والأمني في غزة أولا. يعيد هذا الشرط مسألة غزة إلى سياقها الأوسع حيث تنتمي، وحيث ما زال ضروريا إنجاز أعمال كثيرة على تلك الجبهة من جميع الأطراف المعنية، بما فيها الفلسطينيون أنفسهم.

سكان غزة يعانون اليوم ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي وتداعي الخدمات الأساسية والبنى التحتية وتراجع الاقتصاد والانتشار الواسع لليأس والإحباط

مع خروج آخر جندي إسرائيلي من غزة في ساعات الصباح الأولى في 12 سبتمبر 2005 تم إغلاق غزة في الواقع وتسليمها إلى «حماس»
back to top