صدى الأرواح

نشر في 22-09-2018
آخر تحديث 22-09-2018 | 00:00
No Image Caption
كانت لحظة فارقة في حياتي عندما عثرت على تلك الحقيبة الجلد القديمة والمهترئة. كانت انعطافة حادّة ومفاجئة في طريق حياة كانت تعاني أصلاً من وحشةٍ باردة. سأدرك في ما بعد أن تلك الدفاتر القديمة في تلك الحقيبة ستغيّر نمط حياتي. تلك الحياة التي تحفل كما غيرها من الحيوات بالمنعطفات التي قد تكون غير متوقعة وخطيرة أحياناً. فكّرت بهذا، أدركت وبشيء من الخوف صحته عندما كنت أقرأ، ببعض الاستعجال، في تلك الدفائر. كانت ليلة استثنائية، ليلة لقائي الأول بذلك الشاب التعس، حامد ابراهيم.

عند تباشير الفجر نهضت وذهبت إلى المطبخ لأحضّر القهوة، كانت الركوة الكبيرة الخامسة منذ مغيب اليوم السابق. حملت الركوة والفنجان وجلست وراء مكتبي في عيادتي حيث أمضيت الليل. الحقيبة مفتوحة ومرمية على الأرض إلى جانبي، والدفائر مبعثرة أمامي على سطح المكتب الواسع. ما زال مصباح القراءة الموضوع إلى يساري على زاوية المكتب مضاءً، كنت قد أطفأت بقية أضواء العيادة قبل أن أجلس. رشفت رشفة من القهوة الساخنة وأشعلت سيجارة. ما زلت أشعر ببعض الدوار ففي تلك الليلة عشت في زمنين يفصل بينهما أكثر من عشرين عاماً. أجلس في عيادتي التي تحتل جزءاً من منزلي في الأيام الأولى من عام 1984، وأمامي الأوراق التي جعلتني أعيش في أواخر الخمسينات وبداية الستينات. لم أكن قد أكملت قراءة الدفاتر كلها وأنا أصبّ الفنجان الثاني وأشعل سيجارة جديدة، لكن كنت منجذباً إلى حد أنني سأعيش مشغولاً بين هذين الزمنين وقتاً طويلاً لا أعلم متى سينتهي.

مددت يدي وأطفات مصباح القراءة. كان ضوء الفجر الشاحب ينير الأشياء بخجل. في تلك العتمة الضئيلة بدت الستائر ذات اللون البرتقالي وكأنها بلون أمغر، والجدران بلون الكريما الفاتحة بدت داكنة أيضاً. ما زالت رائحة الطلاء الجديد متشبّثة بهواء المنزل والعيادة رغم الوقت الطويل الذي مضى على الطلاء.

شعرت بالبرد، فقد كنت أطفأت المدفأة بعد منتصف الليل بقليل عندما عدت من المطبخ حاملاً ركوة القهوة الثالثة، ووجدت أن غرفة العيادة أصبحت دافئة جداً. ولكنه كانون الثاني ببرده القارس. كان صوت المطر الذي أخذ ينهمر بقوة في تلك اللحظات يذكّرني بأننا في عز الشتاء. ومضت في ذهني ذكرى قديمة نائمة مثل برق مفاجئ أنار وللحظة خاطفة غرفة معتمة مليئة بالأشياء المكدّسة والظلال المتراكمة. مات حامد ابراهيم في عزّ الشتاء في شهر كانون الثاني، وتذكّرت أنني سمعت بهذا الاسم لأول مرة منذ اثنتين وعشرين سنة! وتذكرت فريد ابن عمّي... زمن طويل، ولكن الدماغ له أساليبه وألعابه بعد كل شيء. الدماغ البشريّ المذهل الذي ما زال يدهشني كلما تعمّقت في دراسته وفي محاولة سبر أغواره.

عندما قلت لوالدي خلال جلسة هادئة جمعتني معه منذ اثني عشر عاماً، وبعد أيام قليلة من تخرّجي في كلية الطب، إنني أرغب بالسفر إلى أوروبا للتخصّص بالطب النفسي عارضني في البداية، ثم اقتنع برأيي وقناعاتي ورغبتي. ولكن والدتي ظلّت غير مقتنعة بما اخترته مساراً لحياتي، حتى بعد عودتي من فرنسا وافتتاحي لعيادتي الجديدة مكان العيادة القديمة لوالدي الذي اعتزل ممارسة الطب. بل بقيت بين الحين والآخر تعبّر عن أمنياتها المجهضة. «كنت أحلم بأن أرى اسمك على لافتة العيادة متبوعاً بصفة جرّاح قلب أو جرّاح أعصاب، ولكن ماشي الحال، اختصاصك هذا جيّد أيضاً». تقول الجملة الأخيرة كي لا تزعجني؛ فأبتسم لها وأقول: «ماما... أنا سعيد بما اخترته عن قناعة ورغبة». تبتسم بمحبة وتقول: «تقبرني يا عادل، المهمّ إنك سعيد وراضٍ». لم تعد تقول لي ذلك الآن. ماتت منذ سنتين، وسبقها والدي قبلها بسنتين. مات والدي في السنة نفسها التي عدت فيها من أوروبا، مات بعد عودتي ببضعة أشهر، ولكن بعد أن أسعفه الحظ والعمر بأن يرى والسعادة تغمره لافتة العيادة الجديدة لابنه الوحيد: «الدكتور عادل فاروق شكري - اختصاصي بالأمراض النفسية والطب النفسي». رآها وهي معلّقة في المكان ذاته المنزوي في أحد شوارع جورة الشيّاح الضيّقة حيث كانت لافتته هو، الدكتور فاروق شكري، معلّقة طوال أكثر من أربعين عاماً، عمل فيها طبيياً ممارساً غير متخصًص، ولكنه بارع وحاذق ومشهور. تلك العيادة، التي وبتصرّف غاضب كمن يقطع مع ماضيه، أغلقتها وبعتها كما بعت الفيلاّ التي عشت فيها عمري كله واشتريت هذا المنزل القديم الذي رمّمته وحوّلته إلى منزل وعيادة في آنٍ معاً... وقد كانت لديّ أسبابي لأفعل ذلك.

ما زال الضوء شحيحاً في الغرفة. الغيوم السوداء تملأ سماء مدينة حمص، والمطر لا يزال ينهمر. لم أشعل أيّ ضوء. رشفت الرشفة الأخيرة من الفنجان الرابع وأجهزت على الركوة الخامسة. كانت علبة التبغ قد فرغت أيضاً. نهضت متثاقلاً ومتعباً وفتحت النافذة المطلة على الحديقة. دخلت نسائم باردة جداً، وازداد صوت هطول المطر ارتفاعاً.

يجب أن أنام. هذا ما فكرت فيه ولكنني لم أكن أنوي أن أفعل. كنت أنتظر أن تصير الساعة الثامنة صباحاً كي أستطيع التحدث هاتفياً مع ابن عمّي فريد. أتوقّع أن أجد بعض الإجابات عنده، ولكنني لا أريد إزعاجه مبكراً جداً.

فريد العشّي، ليس ابن عمّي المباشر في الحقيقة، بل هو أحد أبناء عمومة والدتي، ويكبرني بستة عشر عاماً، ولكنه ومنذ صغري يناديني بابن العمّ.

جاء صوته الهادر مفعماً بالنشاط: «آلو... من معي؟».

« صباح الخير فريد، أريد أن أراك».

اكتسى صوت فريد بجدّية واضحة: «خير يابن العمّ؟!».

قلت بسرعة: «فقط أريد أن أسألك عن موضوع مهمّ، ولكن لا شيء خطيراً».

تنهّد فريد بارتياح وقال: «تعال إلى المكتب قبل التاسعة بقليل، أراك قبل ذهابي إلى السرايا».

قلت له: حسناً، وأغلقت السمّاعة. في حمص يطلقون على القصر العدلي الذي يضمّ مجمّع المحاكم اسم السرايا، وهو مبنى قديم وكبير من طابقين بناه الفرنسيون في مركز المدينة، ويضم المحاكم كلها والكاتب بالعدل والنيابة العامة، ويوجد في قسمه المطلّ على ساحة الساعة الجديدة مقرّ المحافظ ومبنى المحافظة. كان مكتب المحاماة الخاص بابن عمي المحامي فريد العشّي يقع في أحد الأزقة المتفرّعة من شارع الدبلان القريب من المكان.

من الطبيعي أن ينشغل بال فريد عندما أتصل به مبكراً في الثامنة صباحاً، في هذا اليوم البارد والممطر، وأقول له إنني أريد مقابلته، بلهجة أدركت بعد أن أغلقت السماعة أنها كانت جدّية أكثر من اللازم، فقد مرت البلاد بسنوات صعبة. صحيح أن الأزمة قد انتهت والبلاد بدأت تعود إلى الحياة الطبيعية تدريجياً، ولكن النفوس ما زالت قلقة.

أمضيت الساعة التالية في الاستحمام والاستعداد للخروج. استحممت بماء فاتر أقرب إلى البرودة، فقد اعتدت على الاستحمام بالماء البارد صيفاً وشتاءً أثناء إقامتي في باريس عندما كنت أتخصّص هناك. الماء البارد ينشّط الجسم والدماغ أيضاً.

back to top