آخر أمراض الكوكب

نشر في 22-09-2018
آخر تحديث 22-09-2018 | 00:00
No Image Caption
بغداد/العراق 18 فبراير 2016

(1)

- جيكا أودي إينايو.

- جيكا أودي إينايو.

- جيكا أودي إينايووو.

استيقظت هالة وطفلاها الصغيران على أثر صراخ زوجها علي معن فيما يقارب الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، وجدته مستيقظاً متحفز الأعصاب، وهو يصرخ ويصرخ بينما يتفحص ما حوله باستغراب، وكأنه يتطلع إلى أرجاء الغرفة أول مرّة في حياته:

- جيكا أودي إينايو، أكمونك، جيكا أودي إينايو.

كان يصرخ بوجه زوجته بتلك الكلمات الهستيرية مراراً وتكراراً، وكأنه ينتظر منها عن ذلك جواباً. كان لصوته النبرة نفسها، ويمكن ملاحظة ذلك بكل بساطة، لكن طريقته في لفظ الكلمات، ومخارج الحروف ولكنته، تكاد توهم المقابل أنه يستعمل حبالاً صوتية جديدة عوضاً عن حبال حنجرته السابقة. وبالرغم من أن ملامح هالة لم تدلّ على استيعاب ما ينطق به إلا إنه استمر بالصراخ:

- جيكا أودي إينايو، جيكا أودي إينايو.

ارتعبت من عيني زوجها كثيراً؛ كانتا جاحظتين نافرتين من محجريهما. تمعنت في وجهه تستجدي تفسيراً فلم تفهم منه الكثير، لم تكن نظراته ذات دلالات معينة لتشير إلى شيء منطقي ومفهوم. وبالرغم من أنه بقي يتفحص ما حوله بتوجس وارتياب، فإن عينيه لم تكونا تريان زوجته تحديداً أو الغرفة أو محيط الأشياء، بل خيّل لها أنه لم يكن ينظر في الفراغ، وقد يكون تصورها صائباً، ذلك لأنه أخذ الغرفة بالتفاتاته دوراناً وطوافاً.

لم تكن غرفة النوم هناك، رغم كل شيء، مميزة بأثاث أو لوحة أو ساعة جدار أو علامة فارقة، كل شيء فيها اعتيادي جداً؛ أربعة جُدُر وسقف واطئ الارتفاع. يتوسط مساحة المكان سرير مزدوج، وعن اليمين واليسار سريرا الطفلين والدولاب. أما الجدار المقابل فقد توسطت فوقه صورة زوجية واحدة، وعلى الأرض ثلاجة وتسريحة ومرآة. ولم يضف إلى ذلك شيء مميز آخر، ما من أثاث إضافي ولا كهربائيات ولا ديكورات، سوى جُدُر مصبوغة باللون الحليبـي، وستارة فضفاضة مسدلة خلفهما غامقة اللون ومخرمة من الداخل.

كانت الغرفة فوضوية ومزدحمة، وتبدو مكتظة بالرغم من اتساعها بالأشخاص الذين فيها، وربما يعود السبب إلى أنه ليس فيها شيء يمكن اعتباره في مكانه الصحيح، وكأن المكان قد شهد - في وقت سابق - كرنفالاً صاخباً؛ فهنا لعب أطفال تملأ الأرضية، وهناك ملابس مرمية ومبعثرة، وفي زاوية أخرى هناك أكياس، وحفاضات، وقناني حليب فارغة مركونة تبعث شعوراً سريعاً بأن صاحبة هذه الغرفة قد عجزت من الحفاظ عليها بأدنى درجات اللياقة والترتيب.

كان جو الغرفة يبعث إحساساً مربكاً، وكأن الهواء انسحب أو اختفى منها.

ازدحمت مشاعر عدّة في تلك اللحظات؛ خوف، رعب، غيظ، قلق، غضب، وانبهار. فالأحداث سريعة ومشحونة، ما يجعل المرء يشكّ في أن يكون هناك ودّ قديم يربط بين هذين الزوجين.

كلاهما كان خائفاً، فقد كان علي يرتعش بلا هوادة، ولو أنه لم يلحظ الارتعاش بادئ الأمر لكون عينيه انشغلتا بأشياء أخرى، ثم أمعن النظر إلى يديه وهما ترتجفان، قلّبهما غير مرّة، وأخذ يصرخ بهما، وكأنه يتعامل مع كائنين غريبين لم يتعرف إليهما قبل هذه الليلة.

أما هالة فقد ارتبكت عندما فطنت لارتعاش زوجها، واغرورقت عيناها من دون دراية بالدموع:

- اسم الله يا عمري.. اسم الله.. لا تفزع، جاثوم قد نزل على صدرك. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

لم تنتبه، وهي تلهج بآيات القرآن بصوتها الخافت، أنها نسيت إحدى آيات سورة الفلق، بل إنها لم تفطن أن لسانها قد تلا هذه الآيات أساساً. أما ردّ فعل علي فكان أكثر منها غرابة، فما أن سمعها تنطق الآيات، حتى جفل مفزوعاً وقفز من مكانه، وأخذ ركناً في طرف السرير، وحينما دنت منه، ودلّكت فخذيه صرخ محتجّاً، وابتعد عنها كمن لدغه عقرب سامّ.

تعالى بكاء الطفلين وارتفعت حدة نشيجهما بالتناسب مع هيجان أبيهما الهستيري. كان يصرخ ويصرخ، وكذلك يصرخ عبودي ذو الخمس سنوات ونونة ذات التسعة شهور. ارتبكت هالة، بل ارتعبت، وما كان أمامها إلا أن تتلقفهما وتهدّئ من روعيهما بتدارك غريزي، فمن الواضح من أسلوبها أنها أوجست من زوجها خيفة، وارتعبت من تصرفاته الغريبة، وتحطمت أعصابها، وبدت مرهقة ومكسورة. فعادت وترجّته من جديد، وتوسّلت إليه أن يهدأ لكن دون جدوى، وربما كانت تفترض وتقنع نفسها أن الأمر لا يتعدى أن يكون مزحة سمجة ابتكرها زوجها، وأن يكون باختلاقه هذه العبارات يحاول أن يختبر صبرها ودرجة تحملها أو شيئاً من هذا القبيل، إلا أن الافتراض بات مستبعداً عندما شاهدت الجدية التي ملأت خطوط وجهه والرهبة التي ارتسمت على محيّاه.

وفي النهاية انتصب علي وسط الغرفة، فلاحظ أن هناك أحداً آخر يقف بجانبه، فتمعن فيه جيداً فلم يجد شخصاً غريباً، ولم تكن من صورة أمامه سوى انعكاس جسمه في المرآة. توجه إلى المرآة، فنظر إليها، فانكمش على نفسه كما كان يفعل حينما يكون مرعوباً، وكذلك انكمش الانعكاس في المرآة على نفسه أيضاً، ثم تلمس وجهه كأنه يستكشفه، ففعل الانعكاس الشيء نفسه. نعم، لقد كان الانعكاس يحاكي علي معن في ما يفعله، فما الغريب في ذلك؟ وما الداعي لأن يتسمّر أمام المرآة، ويمتحن انعكاسه فيها بالإشارة والتلويح؟

جفلت هالة من تصرفاته هذه، واستفهمت:

- ماذا حدث معك يا عمري؟ أرجوك تحدث معي، ماذا حدث؟

ولكن علياً استدار، واندفع من دون سابق إنذار نحوها، وقفز فوقها. حاولت الفرار منه، وارتدت، وانزلقت من الحافة وكادت تقع، لكنه تداركها وجرّها إليه مجدداً. أحكم جسده على مفاصلها فوق السرير، وكوّر يديه حول رقبتها، وأخذ يرفعها ويقذفها مراراً، ولمّا يزل يردد بلغطه المبهم:

- إي كيتي كومين كايو.. جيكا أودي إينايو

لم يكن خنقها شيئاً عسيراً البتّة، فقد كانت صامتة تماماً، بل جامدة، وكأنها قررت ألاّ تتابع الفرار، ولم تعد تعرف أي جنون هذا الذي تلبّس زوجها وحمله على جناحيه المبسوطين؟ تصنّمت بين يديه كليّاً. لم تقاوم، ولم تهرب، ولم تصارع، بل فضلت الاستسلام، وكأنها ارتضت أن تكون فريسة جمود وتسجل نهايتها في هذه الليلة، وبهذه الطريقة البائسة؛ مخنوقة بين يديّ زوجها.

تلاشت بعد ذلك من حولها أصوات صراخ الزوج الهائج والطفلين بعد أن فقدت وعيها وأغمضت عينيها، وأصبح كل شيء بعيداً جداً، لم يعد هناك شيء، وما هي إلا لحظات تفصلها عن الانتقال إلى العالم الآخر، ومن حسن حظ الأسرة وتاريخها، فقد دخل مازن على حين غرّة إلى الغرفة وكسر بابها، وأبعد هالة بالقوة وأنقذها من بين يدي أخيه المرتجفتين.

(2)

كانت ليلة استثنائية في تاريخ هذه الأسرة، ليلة ثقيلة وتعيسة، لا سيمّا الساعات الوئيدة التي قضتها هالة وأخو زوجها مازن في طوارئ المستشفى وردهاتها، فقد دخلت المستشفى كلها في حالة إنذار حقيقي إثر هيجان علي ولغته غريبة الأطوار، ولم تكن لتفلح العقاقير القوية جداً بإخماد صخبه إلا بعد ساعة كاملة سقط إثرها في سبات عميق.

ولم تفلح الحاجّة أم علي ولا وسن بإقناع مازن بمرافقتهما إلى المستشفى، فقد رفض مازن ذلك بشدّة متحججاً بمن سيبقى برفقة الأطفال إن رحل الجميع، وربما كان شعوراً جديداً ما أحسّ به مازن عندما أصدر لهم الأوامر، وكانت تلك المرّة الأولى له باعتباره مسؤولاً، ولو أنه لم يأخذ مسؤولياته على محمل الجدّ قطعاً، فقد نام بجانب أخيه، وكأنّ شيئاً لم يكن. فما دامت الأمور على ما يرام يمكنه النوم، وما أن يجدّ ما ينذر بالقلق، سيستيقظ متأهباً وهو في كامل وعيه. وبالتأكيد فإن هذا الادعاء لا يمتّ للحقيقة بشيء، فمازن يتشابه مع أخيه بكونهما يتمتعان بقدرة غير محدودة على النوم ساعة يشاءان، كيفما يشاءان، وأينما يشاءان، قيلولتهما القصيرة تحسدهما عليها حيوانات القطب الجنوبـي ذات السبات الطويل، فقد يمتدّ أقصرها وفي أسوأ الحالات إلى أربع ساعات ويزيد.

ولكن نقاط الاختلاف بين الأخوين تفوق نقاط تشابههما، فمازن من جهته وسيم الطلعة، خفيف الظل، لطيف المعشر. ربما يُعاب عليه أنه لم يتحمل المسؤولية في حياته كلها، إذ كان يعمل رسمياً «عاطلاً عن العمل»، أو «سائق مخدّة» كما يحب أن يُشار إليه. متعدد المواهب مازن، فقد سبق له وقام بجميع أنواع الأعمال والحرف؛ عمل صبّاغاً وبائعاً لملابس أطفال وعاملاً في محل مثلجات ونادلاً في مطعم، وعمل حمالاً في مخازن الشورجة، وسائقاً على سيارة أخيه، فضلاً عن مقدرته على تصليح الأجهزة الكهربائية والحاسبات والهواتف النقالة وتنصيبها. إلا أنّ حبله مع المسؤولية كان قصيراً جداً، فما إن يستقرّ في صنعة ليكسب من ورائها مالاً يكفيه لتغطية احتياجاته ونفقاته حتى يترك العمل ويعود إلى سابق عهده، سائقاً للمخدّة، ولم يكن من الهيّن التحكم والسيطرة على أفعاله. لذلك كان يتوقع أن يصدر الصخب والهيجان من مازن لا من أخيه علي البسيط.

منذ 2006 وحتى هذه الليلة يعدّ علي معن هو المعيل الرسمي لكل أفراد الأسرة، ونقصد أفراد الأسرة زوجته والأطفال، وكذلك الحاجّة وأخاه مازن وأخته الصغرى وسن. أما أبو علي فقد توفيّ بأزمة قلبية متكررة قبل عشرة أعوام. لم يكن أبوه من النوع الذي يكترث بحالته الصحية على الإطلاق، بل كان يعدّ أيقونة بحدّ ذاته فيما يتعلق بهوس التدخين، ولا أحد يستذكر هيئته إلا ويتخيل السيجارة موضوعة بجانب فمه، لم يتخلّ عن السيجارة ولم تتخلَّ عنه حتى وفاته، ويشاع أنه توفيّ والسيجارة ما زالت مشتعلة في فمه. كان مريضاً جداً، خاصة في أيامه الأخيرة، لكنه فضّل أن يبقى عنيداً بما يتعلق بالأدوية حتى آخر أيامه. وكلما ازدادت أدويته فوق الرفّ وازدادت دواعي استخدامها، ازداد تناسيه لمواعيدها وتذرّعه بعذر جديد بعدم جدواها. توفيّ وكانت تركته مئة متر مساحة منزل في حي «أبو أقلام» في الكرّادة، وراتباً تقاعدياً عسكرياً متواضعاً بالكاد يكفي لمصاريف وسن واحتياجاتها الدراسية.

وعلى الرغم من أن العلم الحديث لمّا يثبت - حتى الآن على الأقل - دور الوراثة بهذا الخصوص، فقد ورث علي صفة عدم الاكتراث بصحته من والده بحذافيرها، وربما زاد عليها، لأن شراهته للتدخين فاقت شراهة والده وإدمانه، ومن الملاحظ أن خديّ علي قد امتُصّا إلى الداخل فأصبحا مجوّفين، وأخذ الإهمال وعدم المبالاة من أسنانه مأخذاً واضح المعالم، فكانت أسنانه تجمع بين لوني الأسود والأصفر بمزيج يدعو إلى الإزعاج، وكلما طلب منه أحد الاهتمام بأسنانه وتنظيفها، تعذّر عن ذلك وتحجج بخطأ طبيب الأسنان الذي زاره مؤخراً وأزال المينا بالخطأ، ما جعل أسنانه معيبة منذ ذلك الحين.

back to top