دماغنا... كيف يشكّل تجربتنا الشخصية عن الوقت؟

نشر في 10-09-2018
آخر تحديث 10-09-2018 | 00:02
No Image Caption
لا شكّ في أننا شعرنا جميعاً في مرحلة ما بأن الوقت يمرّ حقاً «بسرعة البرق» حين نستمتع. ولكن لمَ يختلف شعورنا بالوقت باختلاف ما نقوم به؟ تناول بحث جديد الآليات العصبية التي تشكّل تجربة الإنسان الشخصية عن الوقت.
الزمان والمكان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً لا فيزيائياً فحسب بل في دماغنا أيضاً. يصبح هذا الرابط الوثيق أكثر وضوحاً عندما نتأمل الطريقة التي يعتمدها دماغنا في تكوين الذكريات العرضية.

الذكريات العرضية ذكريات من سيرتنا الذاتية، أي عن حوادث محددة صادفناها في مرحلة محددة من الزمان (والمكان). تُعتبر ذكرى اللقاء الأول مع الحبيب وذكرى المغامرة التي قمت بها مع أصدقائك الأسبوع الماضي من الأمثلة على الذكريات العرضية. في المقابل، تشير الذاكرة الدلالية إلى الوقائع والمعلومات العامة التي يستطيع دماغنا تخزينها.

تحمل الذكريات العرضية مكوّني «أين» و«متى» بارزين. ويُظهر بحث جديد في مجال علم الأعصاب أن منطقة الدماغ التي تعالج المعلومات المكانية قريبة من تلك المسؤولة عن طريقة اختبارنا الوقت.

تكشف دراسة جديدة شبكة خلايا الدماغ التي تشفر تجربة الوقت الشخصية تحديداً. تقع هذه الخلايا العصبية في منطقة من الدماغ مجاورة لمنطقة أخرى تتولى فيها الخلايا العصبية تشفير المكان.

أجرى هذه الدراسة باحثون من معهد كافلي لعلم أعصاب الأجهزة في تروندهايم بالنرويج. وتولى ألبرت تساو الإشراف على إعداد تقرير الدراسة الذي نُشر أخيراً في مجلة «الطبيعة».

خلايا عصبية تتبدّل مع الوقت

قبل أكثر من عقد، اكتشف اثنان من الباحثين الذين عملوا على الدراسة الجديدة (ماي-بريت موسر وإدفارد موسر) شبكة من الخلايا العصبية دُعيت شبكة الخلايا المسؤولة عن تشفير المكان.

تُدعى هذه المنطقة القشرة الشمية الداخلية الوسطى. وفي الدراسة الجديدة، أمل تساو وزملاؤه العثور على شبكة مماثلة من خلايا الدماغ تشفّر الوقت.

لذلك قرر الباحثون التحقق من الخلايا العصبية في منطقة مجاورة للقشرة الشمية الداخلية الوسطى (اكتُشفت فيها خلايا الشبكة). تُدعى هذه المنطقة القشرة الشمية الداخلية الخلفية.

بحث العلماء بادئ الأمر عن نمط، إلا أنهم عجزوا عن العثور على واحد. «فقد تبدلت الإشارات باستمرار»، حسبما يوضح إدفارد موسر، باحث شارك في وضع تقرير الدراسة وبروفسور في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا أيضاً في ترودنهايم بالنرويج. لذلك افترض الباحثون أن الإشارة ربما لم تتبدل بمرور الوقت بل تبدلت مع الوقت.

يذكر البروفسور موسر: «الوقت دوماً فريد وفي حالة تبدّل. وإذا كانت هذه الشبكة تشفّره حقاً، فمن الضروري أن تتبدل الإشارة مع الوقت كي تسجّل التجارب كذكريات فريدة».

وهكذا انطلق الباحثون في عملية تحقق من مئات الخلايا العصبية في القشرة الشمية الداخلية الخلفية في أدمغة مجموعة من القوارض.

التجربة تؤثر في إشارات تشفير القشرة الشمية الداخلية الخلفية للوقت

لتحقيق هذا الهدف، سجّل تساور وزملاؤه نشاط جرذان العصبي طوال ساعات تعرضت خلالها هذه القوارض لمجموعة من التجارب.

في إحدى التجارب، ركضت الجرذان في علبة تتبدل ألوان جدرانها باستمرار. وكرَّر الباحثون هذه التجربة 12 مرة كي تتمكَّن الحيوانات من تحديد «الأطر الزمنية المتعددة» خلال التجربة.

تفحّص الفريق النشاط العصبي في القشرة الشمية الداخلية الخلفية، مميزين بين نشاط الدماغ الذي سجّل التبدل في ألوان الجدران وذاك الذي سجّل تقدم الزمن.

يكتب معدو تقرير الدراسة: «من الواضح أن النشاط [العصبي] في القشرة الشمية الداخلية الخلفية حدَّد الإطار الزمني الفريد لكل حقبة من التجربة وفق معيار زمني من الدقائق».

يضيف الباحثون أن نتائج التجربة «تشير إلى أن القشرة الشمية الداخلية الخلفية قد تكون مصدراً محتملاً لمعلومات الإطار الزمني الضرورية لتشكيل الذاكرة العرضية في الحصين».

في تجربة أخرى، سُمح للجرذان بالتجول بحرية في أماكن مفتوحة، مختارةً العمل الذي تريد القيام به والمساحة التي ترغب في استكشافها بحثاً عن قطع من الشوكولاتة. وكُرر هذا السيناريو أربع مرات.

لخّص يورغن شوغار، باحث شارك في إعداد تقرير الدراسة، ما توصلوا إليه قائلاً: «تشير فرادة إشارة الزمن [العصبية] خلال هذه التجربة إلى أن الجرذان حظيت بسجل ممتاز من الوقت والتسلسل الزمني للأحداث خلال الساعتين اللتين استغرقتهما التجربة».

يتابع موضحاً: «تمكنا من استخدام الإشارة من شبكة تشفير الوقت لنتتبع متى وقع كل حدث في التجربة تحديداً».

أخيراً، أرغمت التجربة الثالثة القوارض على اتباع مسار أكثر تنظيماً مع خيارات محدودة وتجارب أقل. في هذا السيناريو، كان على الجرذان الركض إما يميناً أو يساراً في متاهة خلال بحثها عن الشوكولاتة.

يشير تساو: «لاحظنا في هذا النشاط أن إشارة تشفير الوقت بدّلت طابعها من تسلسلات فريدة من الوقت إلى نمط متكرر ومتداخل جزئياً».

يتابع موضحاً: «في المقابل، صارت إشارة الوقت أكثر دقة وقابلية للتوقّع خلال المهمة المتكررة».

يضيف تساو: «تشير البيانات إلى أن الجرذ تمتع بفهم دقيق لزمانية كل دورة، إلا أنه امتلك فهماً ضعيفاً للوقت من دورة إلى أخرى ومن بداية التجربة إلى نهايتها».

كيف تشفر الخلايا العصبية في القشرة الشمية الداخلية الخلفية التجربة؟

«عندما ضُبطت تجارب هذه الحيوانات باستخدام مهام سلوكية وأصبحت متشابهة خلال التجارب المتكررة، تراجعت عملية تشفير التدفق الزمني من تجربة إلى أخرى، في حين تحسّنت عملية تشفير الوقت بالنسبة إلى بداية التجارب»، وفق معدي تقرير الدراسة.

لذلك استخلص تساو وزملاؤه: «تشير هذه الاكتشافات إلى أن مجموعات الخلايا العصبية [في القشرة الشمية الداخلية الخلفية] تمثل الوقت أساساً من خلال تشفير التجربة».

بكلمات أخرى، تعمل «الساعة العصبية» للقشرة الشمية الداخلية الخلفية بتنظيم التجربة وفق تسلسل دقيق من الحوادث المنفصلة. يوضح تساو: «تكشف دراستنا كيف يفهم دماغنا الوقت فيما نعيش حدثاً ما. لا تعمل الشبكة على تشفير الوقت بوضوح، فما نقيسه هو وقت شخصي ينبع من تدفق التجربة المتواصل».

لذلك يؤكد العلماء أن الإنسان، بتبديله نشاطاته وتجربته، يستطيع أن يبدّل إشارات الوقت الصادرة عن القشرة الشمية الداخلية الخلفية، فيغيّر هذا بدوره نظرتنا إلى الوقت.

أخيراً، تُظهر النتائج أن الذكريات العرضية تتشكّل بدمج معلومات مكانية من القشرة الشمية الداخلية الوسطى مع معلومات من القشرة الشمية الداخلية الخلفية في الحصين. فيتيح هذا للحصين تخزين عرض موحد لتفاصيل «ماذا»، و«أين»، و«متى».

الإنسان بتبديله نشاطاته يبدّل إشارات الوقت الصادرة عن القشرة الشمية الداخلية الخلفية
back to top