الدهشة!

نشر في 06-09-2018
آخر تحديث 06-09-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري الحياة بالنسبة له بطعم منقوع أمنية عتيقة لعجوز طاعن في الخرف!

ينام كل ليلة متخففا من أحلامه، قدر استطاعته، ويصحو "مُنتعلا" يومه بلا توقعات ليست في الحسبان، وبلا انتظار لأي مفاجأة، كل يوم ليس سوى ورقة من روزنامة منسوخة عن روزنامة السنة السابقة، وسنوات تسبقها أخرى، ولا تختلف فيها سوى الأرقام!

يعبر عقارب ساعات يومه كظل لا يتسرب إلى دمه السم، أو كضيف لا ينتظر كرما من مضيفه! لا فرق لديه بين جناح فراشة وجنح الظلام، ولا يزيده الزجاج المعشق للنوافذ إغراء لملء الشرفة بالزهور أكثر من تلك النوافذ المكبلة بالحديد! يحفظ قليلاً من الأغاني مما لاتزال ذاكرته تقاوم بضراوة حتى لا تفرّط فيه، معظمها جمعتها الذاكرة أيام المراهقة وبداية الصبا، وإن كان لم يتبق فيها من كلمات تلك الأغاني سوى القليل!

لم يلحظ قطّ اكتمال القمر، فالشوارع بأنوارها الكاشفة لا تجعله يلحظ ذلك، أشرت إلى القمر ذات كان بدرا قاصدا لفت انتباهه، فألقى على السماء نظرة خاطفة، وأكمل ما كان يقوم به من حديثه بعيدا عن شؤون القمر. حياته الاجتماعية بشكل عام طبيعية، لديه أصدقاء متنوعون يشاركهم بعض النشاطات، كالسفر، وبعض الهوايات الأخرى. يقضي حياة عادية بشكل عادي لا يعكرها سوى "الطفش"! إنه أحد أقرب "أعدقائه"، كل وقت يجدّله بخيوط البهجة ينقضه "الطفش" بطرفة عين، كل لحظة أُنسٍ يخبئها في جيبه ينشلها "الطفش" من الجيب الآخر. "الطفش" لا يجعل لسعادته عمرا، ولا يمهلها وقتا كافيا لتعيش، فرحته أشبه ما تكون بالسبيرتو، لا يبقى لمشاعرها أثر بعد زمن قصير، يطوي يومه في آخر اليوم كسفرة طعام بلاستيكية قابلة للاستخدام مرة واحدة، ثم ينام ليلته تلك متخففا من أحلامه، ويصحو "منتعلا" اليوم الآخر بلا توقعات لا يألفها، لتمر الحياة بالنسبة له قليلة الدسم منزوعة الدهشة!

وكأنما أيقظت كلمة "الدهشة" شيئا خفيا غامضا في داخله، لا يتذكر آخر عهده بها، ولا كيف وأين افترقا، ولا يعلم إن كانت دهشته تلك على قيد الحياة، أم أنها قضت نحبها مدفونة في إحدى مقابر عمره.

أخذته ذاكرته بسرعة إلى سنوات طفولته، وما بعد سن الرشد بقليل، حيث كانت دهشته حاضرة في كثير من المواقف واللحظات. تذكَّر حدقتا عينيه المفتوحتين عن آخرهما، وكذلك فمه، وذلك الشعور الغريب المصاحب لفلاشات برق تلتقط صورة حية للحظة تلقائية لم يتم التحضير لها. كانت دهشته تلك هي التي تلتقط تلك الصور لكل اللحظات والمواقف التي تصنع أيامه أولاً بأول، لتحتفظ بها طازجة في ألبوم ذكرياته، كانت بمثابة المواد الحافظة لبقاء صلاحية اللحظة طويلة الأجل. مثل تلك اللحظات كانت تمنح يومه طعما ولونا مختلفين عن سابقه، وربما عمّا يليه. لم تكن الأيام حينها ورقة من روزنامة أُعيد نسخها عن روزنامة السنة السابقة باختلاف فقط في أرقام الأيام!

أدرك أنه منذ أضاع دهشته خلال بحثه عن حياته، أصبحت الحياة بطعم منقوع أمنية عتيقة لعجوز طاعن في الخرف!

back to top