حين يصبح الفكر منهج حياة

نشر في 29-07-2018
آخر تحديث 29-07-2018 | 00:00
 فوزي كريم سبق أن أشرت إلى كتب "حكمة" أحرص على أن تظل متوافرة إلى الجوار، لا في الرفوف. أعود إليها كل حين، وخاصة لحظة الحاجة إلى فرك الصدأ عن البصيرة، يوم يغشاها عمى العادة، والأهواء الشخصية، وعبث التاريخ. وذكرتُ أن من هذه الكتب "التأملات" The Meditation، للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius. وكتاب "عزاء الفلسفة" Consolation of Philosophy للروماني بوئثيوس Boethius. هناك أكثر من 6 ترجمات للكتاب الأول، على حد علمي، في الإنكليزية، وقد اعتدتُ ترجمة G. Long ورقية ورقمية، بين يدي. في مرحلة متأخرة تبينتُ ترجمة عربية رائعة قام بها د. عادل مصطفى، فانفردتُ بها بفعل أكثر من عامل مشجع. فالمترجم، إلى جانب كونه طبيباً متخصصاً في علم النفس، أستاذ في حقل الفلسفة والأدب، يتمتع بلغة عربية ممتعة وعارفة في آن. فصرت أقرأ نثره بصوت مسموع، مستمتعاً بهوامشه، التي لا تخلو من شواهد من أبي العلاء، الذي تتطابق نبالته مع نبالة ماركوس. والعامل الأكثر إغواءً لي هو فرط حماسته لثمار "الحكمة" التي يفترضها في المعرفة. هذا توجه ذو بصيرة نُلم به جميعاً في الإهداء الذي وضعه للكتاب، وهذا مقتطف منه: "إلى جيل الأخطاء والخطايا/ عساه أن يتعلم شيئاً من ماركوس أوريليوس الذي كان يفضل خطوة في الواقع على خطوات في الوهم/ ويعرف أن ما لا يفيد السربَ لا يفيد النحلة/ ويتعلم كيف يحكم نفسه قبل أن يحكم العالم/ وكيف يتطهر بالاعتراف قبل أن يطهرَه زوالُه". ولم يُفاجئني أن أجد الأستاذ عادل وقد ترجم "عزاء الفلسفة" أيضاً، ولم يغفله.

الكتابان لهما مدخل واحد هو الإنسان، وكيف يجب أن يرتقي، بحكم البديهة، إلى معرفة نفسه من أجل السلام معها. هذه المعرفة ليست عضلية، كما تتراءى لنا الثقافة والمثقف معظم الأحيان. وليست ساحة معترك من أجل الغلبة. إن ماركوس الإمبراطور (161 - 180 م)، الذي تورط في حروب دفاعية طيلة حكمه، كان أحوج ما يكون إلى الخلوة مع النفس، حين تُتاح الخلوة، ليكتب خطاباً لها عن زبدة خبرته "الرواقية". إن أروع ما ثبت في كياني المتسائل من "رواقية" ماركوس هو رؤية هذه الوحدة بين حياة الكائن الإنساني وبين الفكرة التي تعتمل فيه. الفلسفة الرواقية منهج حياة. ما من حالة انفصام بين كيانين لا لقاء بينهما (الظاهرة التي نعرفها بيننا حد الألفة): بين الإنسان وبين المثقف الذي فيه.

وما ثبت في كياني من هذه "الرواقية" أيضاً هو هذا الاحتفاء بلحظة "الحاضر"، لأنها وحدها الحية، وسط كتلتي الماضي وكتلة المستقبل اللتين هما عدم محض. مع أن الإنسان لا ينشغل في كل لحظات حياته إلا داخل كتلتي العدم هاتين. ما ذهب لم يعد له وجود بالمطلق، ولا وجود للمستقبل الذي لم يحدث. وعبر هذا البحران في العدمين يتمرغ الإنسان طيلة حياته في وحل الوهم الذي لا يمس الحقيقة الحاضرة.

كتاب ماركوس علاج لمرضى الثقافة ولمرضى الإبداع الخيالي. ولا أعتقد أن مثقفنا العربي اليوم، وهو ظاهرة لا أطمئن لعافيتها، يمكن أن يقرأ كتاباً كهذا بجدية. فهو كتاب لا يعلي من شأنه. والأمر يصح مع كتاب "عزاء الفلسفة"، الذي كتبه موئثيوس في السجن، في الأشهر القليلة التي سبقت إعدامه عام 542 م. في حلمه يتعرض لزيارة مفاجئة من السيدة الفلسفة، وبينهما يدور حديث، عادة ما يبدأ بنص شعري. يتلقى السجين ثمار الحكمة، واحدة إثر أخرى: وتتلقى معه أنت أيضاً، لأنك تشعر أنك سجين آفات أقسى وطأة من الجدران الأربعة.

د. عادل مصطفى لم يكتفِ بالترجمة الموفقة، بل أسهم في التأليف الذي يتمتع بإحاطة كافية وبوجدان ملتهب، داخل الكتاب، في مقدمتين وملحقين للكتابين، بالغي الغنى والإمتاع.

back to top