حبر و ورق

نشر في 21-07-2018
آخر تحديث 21-07-2018 | 00:02
No Image Caption
بين رصاصتين

حوالينا ولا علينا

بدأت طائرة الهليكوبتر تحوّم فوق حيّنا ببطء، كل شيء توقف عن الحركة، ساد صمت مُريب، أدركتُ أنها سترمي برميلاً متفجراً كما فعلَت بأحياء المعضمية الأخرى، لا أعرف كيف أتصرف، الشارع مرصود بنيران القناصة، ولا سبيل إلى الخروج من البيت.

ضممت ابنتي سميرة إلى حضني وسرت بها سريعاً نحو الممر الداخلي بين الغرف، أقوى بقعة في البيت، شرعت أبتهل إلى الله بصوت عال:

-يا رب، أبعد البرميل المتفجر عنا.

رددت سميرة ورائي:

-يا رب، أبعد البرميل المتفجر عنا.

بدا صوتها رقيقاً بريئاً، وكلمة (البرميل المتفجر) ثقيلة على صوتها!!

-اللهم، حوالَينا ولا علينا!

-اللهم، حوالَينا ولا علينا!

-اللهم أبعد الأذى عنا.

-...

صوت هائل اخترق أذنيّ، هزّ البيت كزلزال، انحجبت الرؤية عني، لم أدرك كم مر من الوقت حين فتحت عينيّ ووجدتُني مُلقًى على الأرض وسميرة بجانبـي، رفعتُها عن الأرض فاستيقظَت والتصقَت بـي.

كل شيء حولي بدا مهشّماً، زجاج النوافذ متناثر في كل مكان، خزانات الملابس مبعثرة على الأرض، الأبواب مهشّمة، الغبار يكسو الأشياء كلها. حمدتُ الله أن البرميل المتفجّر لم يسقط على عمارتنا!

بدأت أذناي تستعيدان قدرتهما على السماع، صوت عويل حاد احتل مساحة الفراغ كلها، حَبَوْتُ إلى النافذة لأعرف مصدره، تعالت من بعيد نار هائلةٌ تشبّ في عمارة (أبو حبيب) مختار الحي، أصوات عويل النساء تكاد تصمّ أذنيّ من جديد، تخيلت ما يجري هناك فاستعمرني بكاء غريب تكاد روحي تخرج معه.

-لماذا تبكي يا أبـي؟

سألتني سميرة بصوتها البريء:

-البرميل سقط على جيراننا.

-ألم تدعُ الله أن يسقط عليهم! لماذا تبكي إذاً؟

-أنا؟!

-ألم تقل يا رب أبعد البرميل عنا؟

-نعم قلت!

-ألم تقل حوالينا ولا علينا؟

-نعم قلت!

-إن لم يسقط علينا البرميل فأين سيسقط إذاً..!! أكيد على جيراننا!!

-...

اخترقتني كلمات سميرة كنصل سكين حاد، أجهشتُ في بكاءٍ مكتوم لم يتوقف حتى الآن...

بنطال مُتّسخ

قُرع جرس الباب فسارعت إلى فتحه بلامبالاة.. لم أكن أتوقع أن تكون هي!

(سامحك الله يا أمي، لو عرفتُ أن ليلى هي التي ستأتي لتستعير المكواة كنتُ غيّرت بنطالي الجينز المتسخ، وارتديت قميصاً بدلاً من الشيّال الداخلي الممزق الذي أرتديه..)

أعطيت ليلى المكواة على عجل، وأنا أداري وجهي عنها من الخجل، راجياً ألا تكون قد انتبهت إلى البقع على بنطالي! مضت ليلى وبقيت أنصت إلى وقع خطواتها الخفيفة الرشيقة على الدرج، وقلبـي يخفق مع كل خطوة..

لم تكد خطواتها تختفي، ويهدأ خفقان قلبـي، حتى اخترقت سمعي ضربات خطوات أخرى كثيرة وثقيلة، سرعان ما انتقلت الضربات إلى باب بيتنا فانخلع من مكانه. اقتحم المنزلَ مجموعةٌ من الرجال المسلحين وأحاطوا بـي وقيدوا يديّ من خلف بقطعة بلاستيك بيضاء، ولم تُجدِ توسلات أمي ونحيبها في إفلاتي من قبضتهم..

عندما خرجوا بـي إلى الشارع توسّلت عيناي شرفة ليلى لعلها تكون هناك، لعلها تُطلّ لترى بنطالي الجينز وشيالي الممزق المتسخين بالطين والدم اللذين اهترآ وأنا أركض في الشوارع، وأهتف.. من أجل الحرية.

نحن الرجال

دخلت سيارات الجيش من جهة البلدية ووقفَت عند مفرق القهوة. سرعان ما ظهرت أمامها سياراتٌ مدنية لمسلحين أخذوا ينتشرون في الشارع. كنتُ واقفاً أمام محل (رجب)، فهرعت مع باقي الرجال ودخلنا إلى المحل، أغلقنا الباب الزجاجي علينا، ورحنا نراقب ما يجري في الخارج من الداخل..

توقعنا مجيئهم، لكن ليس بهذه السرعة، المظاهرات بدأت بالأمس فقط!

دخل المسلحون البيوت المطلة على الشارع، أخرجوا منها أولاداً يافعين، طوّقوهم بالضرب والحبال. خرجت من ورائهم نسوةٌ يُدافعن عن أولادهن، وبينما نحن نراقب اقتربت منا امرأة في عقدها الخامس، وفتحت الباب وصاحت:

-ابقوا مكانكم لا تتحركوا.. أولاد الحرام يعتقلون الرجال!

بقينا (نحن الرجال) في الداخل، ركضت المرأة تجادل المسلحين وتدفعهم عن أحد الأولاد، وكنا (نحن الرجال) نراقب ما يجري من الداخل.

اقتربت سيدتان من المحل وفتحتا الباب، قالتا بصوت واحد:

-لا تخرجوا حتى لا تُعتقلوا!!

أسرعت المرأتان نحو المسلحين تتوسلان إليهم أن يتركوا الولد الذي بين أيديهم. لم يمضِ وقت قصير حتى خرج من البيت المقابل للمحل مسلّحٌ يجر وراءه ولداً يبلغ الرابعة عشرة من عمره، ومن خلفهما امرأة تبكي وتتوسل. اقتربتُ وبعض الرجال وألصقنا وجوهنا بالزجاج لنرى بوضوح، أشارت إلينا النسوة بأيديهن أن نتراجع ونبقى في الداخل، فتراجعنا عن الزجاج وبقينا (نحن الرجال) نراقب ما يجري من الداخل.

ما زالت المرأة تحاول أن تُخلّص ابنها من أيديهم. عصبوا عينيه وألقوه في سيارة جيب كبيرة، بَقِيَت ساقُه متدليةً خارج الباب الخلفي الأيسر، فتعلقت أمه بها. سارت السيارة فجأة والأم ممسكة بساق ابنها، فجَرَّتها السيارة معها بجانب الباب إلى أن غابت عن أعيننا..

كان مشهداً مريعاً، وكنا نراقبه من الداخل.. (نحن الرجال)!!

سِرْب..

وصل خبر طائرات النظام التي ستأتي لتقصف (داريا) فهرع الناس إلى الملاجئ، وركضت أنا إلى السطح!

أخرجتُ الحمام من البرج وأطلقته في السماء، حلّق عالياً في سرب واحد، دار في السماء كرقصة صوفية هادئة، انساب بحركة دائرية وديعة ذات اليمين وذات الشمال، ثم احتضنته السماء وغيَّبَته في حضنها الأزرق.

ظهر في آخر الأفق سربٌ آخر، كُتلٌ حديدية غريبة، اقتربت بسرعة بلا إيقاع، حركتُها مستقيمة حادة، شقّت صدر السماء، فبدأت تنزف.

تكسي

سرَت في ليل المدينة شائعات عن انسحاب الجنود المفاجئ؛ لم يتوقعوا مقاومةً شرسةً من الثوار! تركوا وراءهم ثلاث دبابات ومجموعةً من الأسلحة.

لا تموت الشائعات سريعاً في (البوكمال) الصغيرة؛ مع شروق شمس الصباح خرج الأطفال يبحثون عن الدبابات الثلاث ومِن خلفهم الأهالي..

لم أجد في نفسي رغبةً في البحث عن الدبابة؛ إذا كانت موجودةً لن تخفيها شوارع (البوكمال) الضيقة وبيوتها الصغيرة! مضيت نحو الفرن في طرف البلدة، فالخبز بات نادراً منذ اندلاع الثورة.

في طريق العودة سمعت صوتاً هادراً كأنّ شيئاً ضخماً يقترب من بعيد، توقفت ونظرت نحو مصدر الصوت، كتلة حديد ضخمة تسير ببطء في الشارع! من حولها عدد كبير من الصبية، وفوقها عدد من شباب البلدة، وعندما أصبحت بجانبـي توقَّفَتْ، سمعتُ من داخلها صوتاً يناديني، لم أتبيّن صاحب الصوت للوهلة الأولى، فبقيت واقفاً في مكاني، فُتِحت كوةٌ صغيرة من أعلى الدبابة، خرج منها صديقي (عبد الحميد سفر) وصاح بحماس:

-تعالَ أوصلك إلى البيت.

-ماذا تفعل داخل الدبابة؟

-هذه غنيمة حرب!!

-هل تعرف كيف تقودها؟

-سهلة جداً، أسهل من السيارة، هيا لا تكثر الكلام، تعالَ أوصلك.

-بالدبابة؟!

ضحك عبد الحميد وضحك معه الشباب الذين يقفون فوق الدبابة، قلت مازحاً:

-هل تعمل الدبابة تكسي هذه الأيام؟

-نعم، وأرخص من التكسي، هيا اصعد ولا تُكثر الكلام..

صعدت أعلى الدبابة ومضى (عبد الحميد) يقطع شوارع البوكمال ويثير غبارها من حوله، والناس كلما رأتنا هلّلت وكبّرت، إلى أن أوصلني إلى البيت، وعندما نزلت من الدبابة شكرته وهممت بالذهاب فصاح (عبد الحميد):

-أين النقود؟

-أي نقود؟

-ثمن التوصيلة!!

أدركت من صوته أنه جاد تماماً، أخرجت من جيبـي خمسين ليرة وأعطيتها له، فأعاد إلي خمساً وعشرين ومضى.

قناعة

كل يوم تستيقظ قبل شروق الشمس، وتلف شطيرة الجبنة مع المرتديلا، كما يحبها وحيدها المدلل. تضعها على الطاولة الصغيرة ليأخذها معه إلى المدرسة، ثم تعود لتكمل نومها، وعندما تستيقظ تكتشف أن الشطيرة لا تزال على حالها فوق الطاولة، فتحزن لأنه سيكمل يومه بلا إفطار. وفي صباح اليوم التالي تعيد الكرة من جديد بلا ملل!!

هو لم يقتنع حتى الآن بأن يُغيّر من عاداته!

وهي لم تقتنع حتى الآن أنه استُشهد منذ سنتين!!

شاهد عيان

ليست هذه المرة الأولى التي يزورنا جارنا (أبو ضرار)، فنحن نسكن العمارة نفسها منذ عشرين عاماً، لكن زيارته اليوم ليست كزياراته السابقة؛ البلد يغلي، والثورة دخلت شهرها الثامن عشر.

ألحّت عليّ (مريم) ألا أتكلم أمامه في السياسة، وأن أضع التلفاز على القناة الحكومية الرسمية، بدلاً من قناتَي الجزيرة والعربية، رَجَتْني أن أُوافِقَه على كل ما يقوله، وألاّ أجادله في شيء، حتى لا أختفي وراء الشمس كما تقول، ولم تتركني حتى أقسمتُ أمامها أن أُلبّي طلباتها كاملةً بلا نقصان.

جاء (أبو ضرار) قبل مغيب الشمس، دخل البيت واثقاً مرفوع الرأس، جلس على الكنبة التي تتصدّر الغرفة، وقبل أن أحرك دفّة الكلام بادرني بسؤاله:

-هل قرأت الخبر المنشور اليوم عن النفق؟

-أي نفق؟

-النفق الذي حفره المسلحون تحتنا!

-تحتنا!

-هل تتخيل أنهم حفروا نفقاً تحت حيّنا!

-تحت حيّنا!!! هل رأيته بعينك؟

-لا، قرأت عنه اليوم.

-أين قرأت عنه؟

-في جريدة البعث الرسمية! ألا تصدق الجريدة الرسمية؟

-......

لم أستطع أن أعلّق؛ وعدت مريم ألا أفعل!! هززت برأسي فتابع أبو ضرار كلامه.

-النفق يمتد من أول دوار (باب مصلى) حتى أول (الزاهرة)، يقولون إنهم وجدوا داخل النفق أسلحةً رشاشةً محليّة الصنع وأموالاً طائلة..

وقبل أن يكمل (أبو ضرار) حديثه قُرع جرس الباب، جاء جارنا (أبو أحمد) بائع الغاز، ما إن جلس حتى أعاد (أبو ضرار) حديثه من جديد:

-اليوم قال لي أحد أصدقائي الضباط إنهم عثروا على نفق طويل حفره المسلحون تحت الشام كلها، من (القابون) حتى (باب شرقي)، وقال لي إنه سار واقفاً على قدميه في ذلك النفق، ورأى بعينيه عدة غرف في الداخل، كل غرفة فيها مكيّف، وفيها أسلحة كثيرة أمريكية الصنع!!

قُرع جرس الباب مرة أخرى، تفاجأت بابن عمي (سعيد) يزورني من غير موعد، فانضم إلى مجموعتنا الصغيرة. وعندما استقر على الكنبة اضطر (أبو ضرار) أن يعيد كلامه من جديد:

-صدقوني يا شباب أمس كنت عند أحد أصدقائي الضباط فأخذني لأرى بنفسي النفق الذي كتبوا عنه في الجرائد، كان نفقاً كبيراً جداً، تخيّلوا سرنا فيه بالسيارة مدةً طويلةً ولم ينتهِ، يمتد من (حرستا) في طرف (الشام)، من جهة طريق حلب إلى (القدم) من جهة طريق الأردن، رأيت في داخل النفق أفران خبز لإطعام المسلحين، وبرادات كبيرة للتخزين، وسيارات جيب رباعية الدفع، وأسلحة كتب عليها (صناعة إسرائيلية)..

وقبل أن يكمل (أبو ضرار) كلامه قرع جرس الباب من جديد..

أرض المؤامرات السعيدة

كم أتذكّر بوضوح تلك اللحظات المجنونة التي مرّت على غفلة منّي، فشطرت حياتي إلى نصفين، وبدأ منها عالمي المعهود المستقرّ يمرّ بتحوّلات جارفة، تفوق قدرة أيّ كائن بشري على التحمّل!

في ظهيرة يوم ثلاثاء صيفي حارّ، تنحني فيه الرؤوس تجنّبًا للغبار، استدعاني رئيس التحرير رياض الكيّاد إلى مكتبه، وكلفني بالذهاب إلى محافظة الحديدة الساحلية، للتأكّد من صحّة حادثة يقال إنّها وقعت أمس في أحد أودية تهامة النائية.

رئيس التحرير الذي تختبئ نظراته الملتبسة خلف العدسات السميكة لنظّارته الطبّية، تكلّم باقتضاب شديد عن المهمّة التي كلفني بها، ثمّ مدّ يده إليّ وناولني خمس رزم ماليّة، كلها من فئة الخمسمئة ريال، وطلب منّي الاستعداد للسفر فجر اليوم الثاني.

لم يكن التحقيق الصحافي الذي ينتظرني هو ما شغل بالي في تلك الدقيقة التي لا تنسى، بل تخيّل مكابدتي للحرارة الجهنّميّة في تلك الأودية، واحتمال أن أصاب بالملاريا إذا ما اضطررت إلى المبيت هناك. عدت إلى بيتي مطمئنّاً وواثقًا من أنّه لا شيء يمكنه، مهما بلغت قوّته، التشويش على مسار حياتي أو خلخلتها.

فتحت الباب فهرع أطفالي الثلاثة لملاقاتي. عانقتهم واحدًا واحدًا، ثم اتّجهت إلى المطبخ تجذبني رائحة زكيّة، وصوت نشيش الزيت الأحلى من تغريد البلابل! رأيت زوجتي مشغولة بتحضير الغداء. تلاقت عيوننا بلهفة، وفي لحظة كان كلّ واحد منّا يطوّق الآخر ويقبّله.

خلعت ملابسي في غرفة النوم، ورميت رزم النقود في أسفل الدولاب قرب جواربي المتّسخة. سخرت من نفسي لأنّني لم أتعوّد بعد على حبّ ورق البنكنوت ومعاملته باحترام.

لاحظت وأنا أغتسل في الحمّام، أنّ دمّلة صغيرة قد نمت فوق قصبة أنفي. بدت حمراء صغيرة. تحسّستها بإصبعي الوسطى، وخمّنت ما تضمره لي... إنها تنوي، عندما أنزل من الجبال إلى تهامة، أن تنتفخ وتمتلئ بالقيح والصديد مستغلّةً المناخ المؤاتي، حيث تحلّق درجات الحرارة فوق الأربعين مئوية، والهواء رطب يفتح مسامّ الجلد. نظرت إليها في مرآة الحمام، وتوعّدتها بأنّها إذا فعلت ذلك، فسوف أخزها بالإبرة، وأطهّرها بمطهّر . فجأة أدركت المفارقة التي وقعت فيها، وضحكت من نفسي، لأنّ اسمي «مطهّر» و الدمّلة بعد جرحها وتطهيرها ستصبح «مطهّرة». آه يا لنا من زوجين رائعين! تساءلت وأنا أسرّح شعري عن السبب الذي دعا أهلي إلى تسميتي بهذا الاسم المريب «مطهّر»... من طهّرني؟ ومتى؟ أم ذلك شيء لم يحدث بعد؟؟ كلاّ، لا أريد أن أعامل كدملة ويخزني أحدهم بإبرته! خرجت من الحمّام وأنا أشعر بالضيق من الاحتمالات التي يطرحها اسمي.

جهّزت زوجتي مائدة الغداء بعشرة أصناف، وفي الوسط استلقت سمكة «ديرك» كبيرة. أدركت على الفور أنّها قد خرجت في الصباح إلى السوق، وأنفقت كعادتها مبالغ كبيرة لشراء لحوم وخضار وفاكهة تفيض عن حاجتنا، ويذهب معظمها إلى برميل القمامة. أنا لست بخيلاً، لكن نفسي لا ترتاح لهذا الإسراف في تكديس الطعام على مائدتنا، ينتابني شيء من تأنيب الضمير.

تزوّجت حوريّة قبل خمس سنوات، بعد قصّة حبّ تردّدت أصـداؤها في جنبات الكليّة. وفي السنة الأولى من زواجنا غرقت في الديون، بسبب ميلها الذي لا يقاوم لإنفاق المال على الفساتين والنزهات والأكـل في المطاعم الفاخرة. بذلت معها غاية الجهد لتبدّل من سلوكها هذا، ولكن في نهاية الأمر هي التي بدّلتني تبديلاً!

أثناء الأكل لاحظت أنّ هايل، ولدي البكر، البالغ من العمر أربع سنوات، كان يهمس في أذن أخته نجاة وهو يضحك. كان مزاجي معتكرًا، فعبست في وجهه وسألته «ما الأمـر؟». فأشار إلى أنفي وقال: «حبّة... قرصتك النملة». ثمّ انفرطت ضحكاته بدون حساب. شعرت بالقلق، وتساءلت في نفسي إن كان هذا الطفل الذي هو حمار تقريباً يستطيع ملاحظة تلك الدملة بسهولة، فكيف ستكون الحال مع الآخرين؟ هل سيلاحظونها؟ وإن لاحظوها فهل ستثير ضحكاتهم؟ اللعنة! لم يكن ينقصني ليكتمل شقائي سوى انتفاخ مضحك يشوّه وجهي.

بعد الغداء، التقطت رواية ألمانيًة، «آل بودنبروك» لتوماس مان، وتمدّدت على السرير. كنت متأكّدًا من أنًه لا شيء سيأخذني إلى قيلولة بالضربة القاضية سوى كاتب ألماني أصيل!

سهرت ليلاً لمتابعة مباراة ألمانيا في كأس العالم. زوجتي حوريّة التي كانت تتصنّع أمامي أنها تشجع الفريق الألماني، خوفًا من الطلاق، تجرّأت وسألتني لماذا أناصر الألمان وكأنّ خالتي متزوّجة بمستشارهم، فأجبتها في الاستراحة بين الشوطين أنّ الألمان هم سادة أوروبا، ونحن، المنحدرين من أصلاب شيوخ القبائل، نعتبر أنفسنا سادة البلاد، أي إنّه يجمعنا الانتماء الطبقي ذاته! سألتني، وخدّاها يتضرجان بالحمرة، عن البرازيل ـ يبدو أنها تشجّع هذا الفريق في السرّ ـ فقلت لها إنّ البرازيليّين هم أولاد شوارع غير متحضّرين، وأنا لا أشجّع الرعاع!

انتهت المباراة بهزيمة ألمانيا وخروجها من كأس العالم. ذهبت للنوم متظاهرًا بأنّني غير متأثر بهزيمة أسياد العالم، تهالكت على السرير وغطّيت رأسي باللحاف، جافاني النوم ساعة أو ساعتين وأنا أبكي مقهورًا، ودموعي تسيل دون توقف.

بعد نوم متقطّع يعجّ بالكوابيس، استيقظت فجرًا وجهّزت حقيبتي بسرعة. شغلت كمبيوتري المحمول، تفقدت بريدي الإلكتروني ولم أفتح أيّ رسالة، مررت على مصحّة الأمراض النفسيّة والعقليّة المعروفة تأدّبًا باسم الفايسبوك، ووزعت الإعجابات كشخص يرفع يده بالتحيّة وهو يركض. نظرت إلى الساعة المضطجعة على الكومدينو ولعنت عقرب الدقائق الذي كان يجري وكأنّ أحدهم يلاحقه بسكين. طبّقت كمبيوتري المحمول وألبسته حلّته السوداء، ثمّ دسسته في الحقيبة وسط ثيابي.

سخنت زوجتي الإفطار، ولكنّني قلت لها إنّني لن أفطر في البيت. هايل ونجاة كانا نائمين، وحدها آخر العنقود كرامة الحلوة ذات السنتين كانت قد فتحت عينيها وجاءت تبحث عنّي.

لم يسبق لي أبدًا أن سافرت يوم أربعاء، إنّه يوم نحس، والقبائل تتجنّب الحرب فيه خوفًا من الهزيمة. احتضنت زوجتي و(كرامتي) الصغيرة، ثمّ ودّعتهما ومضيت إلى وجهتي. كان سيف الحزن يثخن قلبي، لكنّي أقنعت نفسي بأنّ سبب تكدّري يعود إلى خروج ألمانيا من كأس العالم ولا علاقة له بسفري.

مع كل خطوة وأنا أنزل الدرج كان يسيطر عليّ شعور غريب.. شعور بأنّني عشت هذه اللحظة الحاضرة بكلّ تفاصيلها في الماضي... أين ومتى؟ لا أدري... أقشعرّ بدني وأحسست بالرهبة والانقباض، خارت قواي، وسحبت شهقة طويلة.

خرجت إلى الشارع وأوقفت سيارة أجرة، وعندما انطلقنا انتابني شعور بألم غامض، ثقيل ومفزع، مظلم وسردابي... أقرب وصف له أنه يشبه جدنا آدم حين فارق بيته في الجنة.

توقفنا عند كشك مفتوح، واشتريت الصحف التي صدرت صباح اليوم. من شدّة قلقي لم أطق تصفّحها، فسألني السائق والفضول يقفز من عينيه: «ماذا قالوا في الجريدة؟». كنت على وشك قذفها من النافذة، لكنني تمالكت أعصابي وخاطبته بلهجة متعالية: «إن على سيّدنا آدم أن يعيد التفاحة التي سرقها».

back to top