نقطة: زقارة على البوسفور...

نشر في 14-07-2018
آخر تحديث 14-07-2018 | 00:19
 فهد البسام لا يعتبر من المدخنين المحترفين، لكنه أشعل سيجارته بعود ثقاب، مثل كل مرَّة يشتهي فيها واحدة، فهو يحب أصعب الطرق وأكثرها وعورة للوصول لأي شيء، ينفث دخان بداية الإشعال، ويضرب أخماساً بأسداس، فقد صار يستبعد ضرب الأرباع بالأنصاف في معادلاته، لأنها تذكِّره ببعض مَن كانوا يلتفون حوله من الذكور. سلسلة طويلة لا تنتهي من المتسلقين والانتهازيين والمندسين والفاسدين الذين كان يفترض أن نحاربهم، لا أن نقف بجانبهم كتفاً بكتف، فنخلط على الناس الطيب بالرديء، كيف انطلت عليَّ وعودهم الحارة وخدعهم البصرية وأنا الخبير المعتق بالرجال وأصول البلاغة وفن التمثيل؟!

ينفث دخان السيجارة، كلهم خرجوا منها، ويبدو أنني وحدي فقط مَن ابتلع الطُّعم مرتين، نفخوا بي، وصدقت نفسي، وانتفخ غروري، فأعماني عن حقائق الأرض والسياسة، حتى اختبأوا خلفي كحصان طروادة، ليحققوا ما أتوا من أجله، وتركوني طريداً ولم يمسسهم الضر. هذا القريب المندس الذي لا أعلم كيف سحرني واستطاع إقناعي - وأنا العنيد عسير الاقتناع - وسحبي خلف أفكاره المتناقضة وكلماته الفاجرة وعلاقاته المشبوهة التي ربما كنت أخدمها بتحريض منه، ودون وعي أو انتباه مني، أو تلك الجماعة بعلاقاتها المظلمة الممتدة بكل مكان، والتي أرادت استغلال الظرف الإقليمي المواتي لها لتهيئ المشهد، تمهيداً لتحقيق أطماعها بالسلطة وضم بلادي لدول الربيع الجديد، آنذاك، فدفعت بي، ثم تركتني، ولم يُصب أحدٌ من بيادقها بأذى، بل زادت مكاسبهم ومناقصاتهم ومناصبهم، إلا واحداً منهم، بسبب طيشه وخروجه عن النص، لا عن صدق إيمان أو رغبة بالتضحية، حتى تابعي الأخرق هذا خرج منها سالماً معافى، وأنا مَن عليه تذوُّق نفس السم مرتين، يأخذ نَفَساً عميقاً وينفث الدخان على شكل دوائر مغلقة.

السياسة فن الممكن، بينما الارتطام بالحوائط والجبال لا يحتاج إلى فن، تدور هذه الجملة برأسه أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة، لكن النتيجة واحدة، السياسة فن والحماقة موهبة، كيف وصلت إلى هنا وأنا مَن أسمعت صرخاتي مَن به صمم، ينفث خيوط الدخان، لا أعفي نفسي من رغبتي بالتخليد والترميز والبقاء قدر الإمكان بين دفات كتب التاريخ التي أنستني بديهيات وقواعد السياسة التي ورثتها، وما كان يجب أن أنجرف وراء هتافات المنجرفين والمتحمسين والنصابين، صحيح أن الفساد منتشر وباقٍ ويتمدد، لكن لا يمكن محاربته مع أمثال هؤلاء. تطهير الذات أولى من تطهير الآخر، فمن يحارب بجيش من السفلة والفاسدين لابد أن يتوقع الهزيمة بانتظاره في كل معركة، كيف فاتني ذلك؟ لا يخلو الأمر من وجود بعض الصادقين والشجعان والمثاليين، لكن أمثال هؤلاء لا يملكون من دهاء وتلبيس الآخرين شيئاً، فيسهل سحبهم والتضحية بهم. إن كنت أنا، وأنا مَن أنا، لم أسلم منهم، وفاتني أن أغلب المناضلين في التاريخ قُتلوا بيد مَن ظنوا أنهم خرجوا للدفاع عنهم. أخذ نفساً أخيراً ورمى السيجارة على الأرض وسحقها بقدمه، وتمنى لو كان أحدهم مكانها، يبدو أن سيجارة واحدة لا تكفي.

back to top