الأديب شربل شربل: لا مفرّ من غمس القلم في الجروح

• الكتابة الأدبيّة تجسيد للقيم الإنسانيّة والفنّيّة والوطنيّة

نشر في 12-07-2018
آخر تحديث 12-07-2018 | 00:00
الأديب شربل شربل
الأديب شربل شربل
لم يكن الأديب شربل شربل يوماً بعيداً عن محيطه، ولم ينعزل في برج عاجي يتفرّج على الأيام وهي تمرّ فرحة حيناً ومحملة بالمآسي حيناً آخر، بل غاص في عمق معمعة الحياة، عاش ويلات الحرب اللبنانية، وآلمته الحروب التي تجري في المنطقة، وتلمس قلمه يوميات المواطن العادي وهمومه ومشاكله، فعكس في كتاباته، سواء في الرواية أو القصة أو المقالة أو الدراسة، واقعاً لم يرده مجرد تسجيل لأحداث أو حالات بل صوراً وعبراً تضع الإصبع على الجرح بهدف التوعية والارتقاء وتعميق ثقافة القارئ، ناهلاً في ذلك كله من تجاربه الخاصة ومن تجارب وطن وأرض ومواطن بقي طويلاً حقل اختبار لمؤامرات خارجية لا تزال تداعياتها تتردد إلى اليوم.
حول كتابه الصادر حديثاً «عسل بلدي» ومجمل نتاجه كان الحوار التالي.

عنوان كتابك الجديد «عسل بلدي- سرديات» فماذا تعني بالسرديات وما الفرق بينها وبين القصة القصيرة؟

«عسل بلدي» مجموعة مختارات قصصيّة كتبتها في أزمنة متباعدة، ولم أراعِ في ترتيبها زمن كتابتها. وهي تختلف في أطوالها ما بين عشر صفحات (يا باشا، وفشّة خلق) وست وأربعين صفحة (غازي). أمّا المشترك فيها فهو السرد، وهو الخيط الذهبيّ في النسيج القصصيّ، سواء كان صغير الحجم، كالقصّة القصيرة، أم طويلاً، كالرواية. لذلك اخترت الكلمة «سرديّات» للتعريف بها، لأنّها توحي بالوصف الحيّ المتحرّك الذي يضفي على النصّ الحكائيّ القصصيّ حياة وحركة.

أمّا القصّة فهي، بخلاف السرد، نوع أدبيّ له شروطه وبناؤه وعناصره، ومنها السرد.

إلى أي مدى تعكس الأقاصيص مراحل من حياتك؟

يعكس بعض أقاصيص المجموعة تجارب من حياتي الخاصّة، كقصّة «عسل بلدي»، فهي واقعيّة وحقيقيّة في منطلقها، وصادقة في زمن حدوثها. أمّا خاتمتها والعبرة منها فمرتبطتان بزمن كتابتها، بعدما نالنا من عاصفة تهجير شرق صيدا، في السنة 1985، ما نالنا.

كذلك القول في أقصوصة «فشّة خلق» التي يميّزها الصدق والواقعيّة، مع هامش من التفاصيل المضافة التي تحتّمها الكتابة القصصيّة وتطوير السرد.

و«فصل من سيرة معلّم» ذاتيّة إلى أبعد حدّ، وواقعيّة، وقد كتبتها بضمير الغائب، وهو أسلوب شائع في هذا النوع من الكتابة، إحدى غاياته الإيحاء بالموضوعيّة.

أمّا الباقي كأقصوصة «شيكو» فهي تحكي حكاية شيكو ميندز، وهو مناضل بيئيّ دافع عن غابة الأمازون، ولا علاقة لي به.

وأمّا «غازي» و«سلام الأخضر» و«أوهام... أحلام» و«حياة...زينة»، فهي تدور حول شخصيّات وأحداث من نسج الخيال، ولا علاقة لها بمراحل حياتي، لا من قريب ولا من بعيد.

ترقية القراء

برأيك هل يفترض بالكاتب أن يضع يده على جروح الواقع فيوردها كما هي أم عليه أن يعمل خياله كي يجد بلسماً لها؟

تعتبر الكتابة التسجيليّة، التي تنقل جروح الواقع كما هي، كتابة تقريريّة صحفيّة دافعها الأساسيّ الإخبار، وقيمتها في مطابقتها الواقع وابتعادها عن الذاتيّة.

أمّا الكتابة الأدبيّة، في معظمها، فلها أهداف سامية، ودوافع أخلاقيّة. إنّها تجسيد للقيم الإنسانيّة والفنّيّة والوطنيّة... وهي، إذا وصفت الواقع، فإنّها تسعى إلى تحريك الضمائر، وإثارة الحميّة، وترقية القرّاء، وتثوير النفوس، بغية العمل على التغيير، بالوسائل المناسبة.

ولكن، لا نستطيع مطالبة الأديب بابتكار حلول لما يعانيه البشر؛ فهذا عمل الساسة والخبراء والمؤسّسات المختصّة. حسب الأديب أنّه يضيء الطريق، ويرفع الصوت، ويهزّ الراكد فينا.

ما هو دور المكان والزمان في القصص؟

نحن أسرى الزمان والمكان؛ ولكنّنا، بقدرة خيالنا، نستطيع تحطيم الأسوار، والقفز فوق الحواجز. والمكان الذي تجري فيه أحداث القصص قد يكون مغلقاً أو مسدوداً، وقد يكون مفتوحاً، أو متحرّكاً، ولكل من هذه الأمكنة دلالاته. أمّا الزمان فقد يكون ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، ولكلّ زمان دلالاته وإمكانيّة استثماره لتحقيق الهدف من الكتابة القصصيّة.

والمهمّ في ذلك كله هو حسن استثمار الوضعيّة المكانيّة والوضعيّة الزمانيّة (الزمكانيّة)، بوصفهما عنصرين بنائيّين في القصص.

والزمان والمكان يؤدّيان وظيفة ديناميكيّة كوحدة متّصلة في القصّة، إذ لا يمكننا تصوّر زمان من غير مكان...

وتعود إلى الكاتب مسألة الانتقال عبر الزمن والتلاعب به، لتقديم ما يريد تقديمه وتأخير ما يريد تأخيره؛ وقد لجأت في قصّة «غازي» خصوصاً، إلى الاسترجاع (الفلاش باك) بشكل ملحوظ، لضرورة السرد.

وبالطبع، نستطيع أن نلاحظ اختلاف زمن الحكاية عن زمن السرد، في كثير من القصص، واستخدام ذلك في إعطاء مغزى محدّد للنصّ السرديّ. ولا يخفى ما للتلاعب بالزمن من أهمّيّة في كسر، أو منع، رتابة السرد.

يحتلّ الحوار حيزاً واسعاً بين الشخصيات في المجموعة، فهل هو ضرورة للمشهد القصصي؟

يعتبر الحوار أحد أهمّ عناصر السرد في القصّة. وأحرص على أن يأتي في السياق الضروريّ، غير مفتعل، لإضفاء الحيويّة على النصّ وجعله أكثر واقعيّة. والكاتب يلجأ إليه لتطوير موضوع القصّة، والتخفيف من رتابة السرد، وللمساعدة في رسم الشخصيّات وتوضيحها والكشف عن دواخلها. وهو، على أهمّيّته، لا يقصد لذاته، أو للتذكير به، وإنّما لاستغلاله فنّيّاً كما يجب. إنّه وسيلة شكليّة للنفاذ إلى جوهر الأشياء، نستخدمها استخداماً إجرائيّاً بحسب مقتضى الحال، لسبب استدعائيّ من باطن النصّ.

شبكة ثقافية

برأيك هل يفترض بالقصة أو السردية أن تغوص في علم الاجتماع وعلم النفس في تحليل الوقائع أم يجب أن تضع الخيال في الأولوية؟

صحيح أنّ العلوم الإنسانيّة كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس حقول معرفيّة مستقلّة، لكلّ منها منهجه ووسائله وغاياته. ولكنّها، شئنا أم أبينا، تختلط في نفس الكاتب، وتشكّل، مع غيرها من نتاجات فكريّة، شبكة ثقافته المتعدّدة المصادر. وهو، عندما يكتب، ينطلق من عدّته الثقافيّة وموهبته الخاصّة، فـ«الإناء ينضح بما فيه». ولكن، عليه في مطلق الأحوال، ألّا يحوّل النصّ الأدبيّ القصصيّ إلى بحث في علم الاجتماع، أو في علم النفس، لأنّه بذلك يخرجه من نطاقه الأدبيّ ليضعه في نطاق آخر.

أمّا مسألة أولويّة الخيال أو عدم أولويٌته، فراجعة إلى شخصيّة الأديب التي يجسّدها أسلوبه.

إلى أي مدى تعكس السرديات ألمك مما يجري حولنا سواء في الداخل أو في الخارج؟

فرعي

أنا من المؤمنين بأنّ الأدب رسالة يجب أن توضع في خدمة الإنسان وقضاياه، لتسهم في ترقيته، وتحسين شروط عيشه. ولا مفرّ من غمس القلم في الجروح النازفة. وقد سبق لي أن نشرت روايتين، هما «غابة الضباب» و«آخر الدنيا» كانتا معبّرتين عمّا أصاب إنساننا ومجتمعنا تحت وطأة الحرب الأهليّة وارتداداتها. وبما أنّني عشت تجربة التهجير المرّة، فمن الطبيعيّ أن تظهر جوانب من نتائجها في السرديّات التي تضمّنها «عسل بلدي». كذلك لا يغيب عنّا ما يجري في الخارج من ممارسات وأنشطة كتلك التي تسهم في التدهور البيئيّ، وقد ظهر ذلك جليًّا من خلال قصّة «شيكو» الذي استشهد بسبب نضاله البيئيّ للحفاظ على غابة الأمازون.

هل يُفترض بالقاص أن يركِّز على صناعة اللغة والأسلوب أو التعبير بعفوية وإعطاء الأولوية للأحداث وليس للغة؟

الأدب صناعة لها شروطها وأدواتها. وأولى هذه الأدوات اللغة التي يفترض في الأديب الحقّ أن يتقنها ويحرص على سلامة التعبير بها وجماليّتها. والأحداث مكوّن من مكوّنات القصّة، خصوصاً في القصص البوليسيّ. أمّا أقاصيص «عسل بلدي» فليست بوليسيّة، ولا تضع الأحداث في رأس أولويّاتها.

في كتابك قبل الأخير «الموائد المفتوحة» مقطوعات نثرية عبارة عن مواقف في أحوال البلد والناس، أو فرضتها مناسبات معينة، فهل تفرض عليك أحداث معينة استعمال أسلوب مباشر في التعبير قد لا يكون محبذاً في القصة؟

يختلف أسلوب المقالة الأدبيّة عن أسلوب المقالة الصحفيّة المباشرة، ويختلف بالتأكيد عن أسلوب القصّة. فلكلّ مقام مقال.

في مسيرتك مع الكتابة روايات ودراسات نقدية وتعريب كتب وتأليف كتب مدرسية، فهل ثمة قاسم مشترك بينها أم أن كل فن من هذه الفنون الكتابية له كيانه الخاص ولا تداخل بينها؟

لكلّ من الفنون الكتابيّة المذكورة كيانه الخاصّ، وأدوات تعبيره، وأربابه. فقد يكون المرء روائيّاً من غير أن يكون متخصّصاً في لغة ما، وقد يكون مترجماً من غير أن يكون أديباً أو روائيّاً. أمّا تأليف الكتب المدرسيّة فيتطلّب خبرة خاصّة في التعليم والتربية.

والقاسم المشترك في ما بين الفنون الأدبيّة المذكورة فهو إتقان اللغة العربيّة وممارسة تعليمها لعشرات السنوات، ومحبّتها، والحرص على إجادة توصيلها.

عودة إلى الرواية

حول جديده يوضح الأديب شربل شربل: «لديّ كتاب جاهز يصدر قريباً، هو مجموعة مقالات كتبتها تباعاً مباشرة على «فيسبوك» تحت العنوان «في مثل هذا اليوم»، وثمة مشروع عودة إلى كتابة الرواية بعد سنوات من الانقطاع بسبب التركيز على تعريب الكتب، وكتابة القصص والمقالات وغيرها»...

بعض أقاصيص المجموعة يعكس تجارب من حياتي الخاصّة كقصّة «عسل بلدي»
back to top