حبر و ورق

نشر في 30-06-2018
آخر تحديث 30-06-2018 | 00:02
No Image Caption
قصر الدم وقضايا أخرى

الفصل الأول

الاثنين 28- 3- 1999 المكان قصر نورمان الجبلي، الوقت مساء، الجو ممطر عاصف...

كان نورمان قد اجتمع مع عدد من أصدقائه والمسؤولين البارزين مع زوجاتهم، وكانت زوجة نورمان موجودة هناك، كان هناك من الخدم حوالى عشرة... وقد كانت أشبه بسهرة من النوع الفاخر... كانت الضحكات والقهقهات تجوب المكان... بدأت السهرة عند السادسة مساء وكانت تسير على ما يرام... إلى الساعة العاشرة حيث حصل ما غيّر الأجواء وقلب الأمور رأساً على عقب... طرق باب القصر عند العاشرة... فتح كبير الخدم الباب فوجد رجلين مبللين بالكامل يرتديان معطفين أسودين ويعتمران قبعتين لا يظهر من وجهيهما شيء، يحملان حقيبة تشبه حقائب تسلق الجبال...

«ماذا تريدان؟». سألهما كبير الخدم.

«نحن تائهان... والمطر وعصف الرياح زادا الأمر سوءاً... هل نستطيع المبيت الليلة هنا؟». سأل أحدهما والذي كان يقف إلى يمين كبير الخدم.

«آه، لكن...».

«أرجوك... نريد الحماية واللجوء... ليلة.. ليلة واحدة...»

«انتظرا قليلاً هنا»...

عاد كبير الخدم إلى حيث كان السيد نورمان مع ضيوفه وهمس في أذنه، فقال السيد نورمان... دعهما يدخلان، لا بأس...

عاد كبير الخدم إلى الرجلين وطلب منهما الدخول... توجها إلى الغرفة التي كان فيها الجميع جالسين... وضعا على الطاولة أمامهم مجموعة أكياس وفتحاها... وسرعان ما انتشر دخان في الجو.. وبدأ الجميع يفقدون عقولهم.

وقف رجل ورفع كرسيه وضرب به رأس الذي بجانبه... صرخ آخر فنظر الجميع إليه فإذا به يغرس الشوكة في يده والدم يسيل... وقفت امرأة وبدأت بسكب الشراب على جسدها.. رجل أمسك سكيناً وهجم بها طاعناً ثلاثة.. انتشر الأمر... استمر لساعات.. كبير الخدم والخادمتان ينظرون من المطبخ مصدومين.. أين الرجلين اللذين دخلا؟... كانا قد حملا أكياسهما وغادرا... حاول كبير الخدم التحرك... فاقترب أحد الرجال منه، ممسكاً بسكين قطع رسغه أمام كبير الخدم وأمسكه باليد الثانية... تراجع كبير الخدم... صرخت الخادمتان... هربتا إلى الداخل... لحق بهما كبير الخدم... خرجوا من القصر... وأوصل كبير الخدم الخادمتين إلى منزله مؤقتاً... وهما لم تعودا كما كانتا سابقاً... وكأنّ عقليهما طارا مما حصل...

«هل يعقل؟! ماريجوانا؟». فكّر هيرشار في نفسه.

بعدها عاد كبير الخدم إلى القصر... فتح الباب الخلفي الذي غادر منه بحذر... تقدم إلى الغرفة التي كانوا فيها.. صرخ!!!... رأى جميع من كانوا في الحفل جثثاً متراكمة فوق بعضها... امتلأ القصر بالدماء.. فبات فعلاً.. قصر الدم.

«هذا ما سمعته من كبير الخدم الذي لا أدري كيف بقي عقله صامداً.. وإن كان قد ظهر عليه علامات...» قالت سالي...

«حقّاً!... إنه أمر مفزع، علامات؟».

«آه، لقد سافرت مرة خارج البلاد، طلبت منه المجيء معي... لكنه رفض.. حاولت معه قليلاً، لكنه استمر على رأيه... مع أنه سيكون سعيداً».

«آه، المسكين... وماذا حصل للخادمتين؟».

«كما قلت لك... إحداهما دخلت مصحة للأمراض العقلية والأخرى انتحرت».

«ومن أعلمك بهذا أيضاً؟».

«كبير الخدم، تسوجي».

«تسوجي؟».

«آه، نسيت، هذا اسمه».

«اممم، فعلاً إنها تجربة مفزعة.. لكنني لم أفهم بعد... لِمَ أنتِ هنا؟... وما المطلوب مني؟ وهل لهذا علاقة بهذه القصة؟».

«لقد مات والداي في تلك الحادثة.. أريد معرفة من كان الرجلان».

«هل تمزحين؟... خمس عشرة سنة مضت... كما أنّ هذين الرجلين يبدوان سارقين أو تاجري مخدرات».

«في الحقيقة... لقد كنت أبحث في منزلنا وهو المنزل الذي كنا نعيش فيه، أما القصر فكان للمناسبات... كنت أبحث في متعلقات والدي وعثرت على ورقة».

«ورقة؟»

«آه، تبدو كـ... الطريق الواجب اتباعه للحصول على الكنز».

«هاه؟!».

«حقّاً هي كذلك!.. لقد كانت معنونة هكذا».

«وأين الورقة؟».

«ها هي». وأعطت هيرشار الورقة التي كانت داخل مغلف.. فتحه، أخرجها، كانت ورقة قديمة جداً يعلوها غبار ومكتوبة بخط رديء، قرأ بصوت عال... «سريع كالريح، هادئ كالغابة، عنيف كالنار، ثابت كالجبل... اتبع هذه المبادئ واستمع إلى قلبك.. تصل إلى الكنز المدفون».

وكانت موقعة بـ «تارديللي نورمان؟!».

«آه، إنّه جدي».

«إذاً جدك كتب هذه الرسالة عن كنز مدفون؟».

«يبدو الأمر كذلك... لقد كان عمري خمس سنوات وقت الحادثة المروعة وأذكر أنّ والدي تحدث مرة عن كنز في ذاك القصر.. يعتبر التركة الكبرى لأفراد العائلة».

«ذاك القصر؟! أهو؟».

«نعم، قصر الدم!». أجفل هيرشار، صمت قليلاً، ثم قال:

«هناك صورة داخل المغلف».

«آه، إنها صورة لنا نحن العائلة قبل خمسة عشر عاماً».

نظر هيرشار إلى الصورة متأملاً ثم قال: «إذاً؟... ما المطلوب مني؟».

«لديّ فضول حول الأمر، وأريد منك اكتشافه».

«اكتشافه؟!».

«نعم». واحمرّ وجهها وأخفضت رأسها قائلة... «لا تعتقد أنني سأذهب إلى ذلك القصر أبداً... أليس كذلك؟».

«آ... آه، أعتقد هذا».

«لذا».

«تريدين مني الذهاب، وحلّ اللغز الموجود في هذه الورقة؟».

«بالضبط!». وابتسمت متحمسة.

«لكن». تردد هيرشار.

«هل أنت خائف؟».

«إ... إيه، لا بالطبع... فقط أتساءل».

«لا تتساءل... سأجعل كبير الخدم ينتظرك هناك، لقد أخبرته أنك ستأتيه وسيساعدك، إنه عايش والدي وجدي وربما يعلم، بالتأكيد يعلم أكثر مني».

«أخبرته؟! أوي أوي، لقد جعلت الأمر كأنني وافقت منذ أيام». تهكّم هيرشار في نفسه...

«ماذا قلت؟».

«آ... آه، حسناً موافق!».

«حقّاً؟! شكراً لك، إذاً متى؟».

«أين يقع هذا القصر؟».

«على تلة جبل دلوما... إنه بارز جداً ومن الصعب عدم ملاحظته».

«هيه، حقّاً؟!» سخر هيرشار.

«إذاً؟ سأتصل بتسوجي وأخبره أنك قادم اليوم».

«آ... آه، حسناً».

الفصل الثاني

قاد هيرشار سيارته والمطر ينهمر على الزجاج لدرجة أنّ المسّاحتين لم تكونا قادرتين على مواكبته... بدأ يقترب من العنوان، البرق وصوت الرعد مع المطر المنهمر أضفت طعماً آخر على الرحلة، هذا ما فكّر فيه.

«ألم يكن من الأفضل البقاء في المنزل في جو كهذا؟».

ثم تذكر أنه لا داعي لهذا الكلام الآن بعد أن رآه أمامه... قصر نورمان... قصر الدم!

ركن السيارة في ما بدا له موقفاً للسيارات... رأى سيارة مركونة «ربما هي لكبير الخدم». قال لنفسه، هبط من السيارة مع الحقيبة التي أحضرها معه، وسقط منه شيء لم ينتبه إليه، وتوجه نحو باب القصر.

طرق الباب بالأداة الحديدية المثبتة عليه، انتظر لحظات، فُتح الباب... وأطل رجل بدا لهيرشار في السبعين من عمره، أبيض البشرة، كثّ الشعر، أبيض الشعر والحاجبين، كان يرتدي بذلة سوداء اللون في حين ارتدى هيرشار كنزة سوداء وفوقها معطف بنيّ على بنطال جينز.

«هل أنت هيرشار؟». سأل الرجل.

«آ... آه نعم، سيد تسوجي إن لم أكن مخطئاً... كيف حالك؟».

«صحيح... بخير، تفضل بالدخول».

دخل هيرشار، نظر إلى كبير الخدم وهو يغلق الباب.

سأل هيرشار خائفاً... «عـ... عفواً، هل هذه التي على الباب؟».

«دماء». أجابه ببرود وأضاف «أظن أنّك تعلم بالحكاية».

«آ... آه نـ... نعم». أجاب هيرشار ثم تحدث لنفسه... «يبدو أنها ستكون ليلة ممتعة جداً!» ساخراً قالها.

تقدم مع كبير الخدم إلى القاعة التي شهدت الحادثة، دخلا إليها، كانت بالفعل إثباتاً... لم يرتّب شيء في القصر بعد الحادثة وترك كما هو... الصالة بدت كساحة قتال، لا شيء في مكانه... أوانٍ، لوحات، كل شيء مكسّر على الأرض، ولا يخلو شبر في الغرفة من بقع دماء، كل شيء بقي كما هو، فيما عدا الجثث التي أُخرجت من القصر إلى قبورها.

«حقّاً، لقد كانت ليلة لا تُنسى أبداً». قال كبير الخدم.

وضع هيرشار حقيبته على كرسي... وفي أثناء ذلك سقطت منها محفظته وجواز سفره، نزل كبير الخدم والتقطهما له وسأله: «لماذا تحمل جواز سفرك معك؟».

«آ... آه». تردد هيرشار.

«يبدو أنني وضعته بالخطأ». ثم قال لنفسه:

«من رتّب الحقيبة هي آيرين هل اعتقدت أنني مهاجر لتضع الجواز؟».

«أخبرني». قال هيرشار بعد تأمل للغرفة... «أنت من فتح للرجلين، ألم تلحظ معهما شيئاً غريباً حينها؟».

«لا، لقد أخرجا الأكياس من حقيبتيهما».

«فهمت».

«والآن، ما الذي ستفعله أيها الفتى؟».

«أفعله؟!...» وأكمل لنفسه... «ربما أوجه أنا لنفسي هذا السؤال، ماذا سأفعل؟».

«على كل، سأكون في المطبخ إن احتجت إليّ».

«آ... آه حسناً».

توجه كبير الخدم تسوجي نحو المطبخ وتبعه هيرشار بعينيه حتى دخل، نظر هيرشار حوله في الغرفة، وبسرعة لاحظ نقطة البداية كما اعتقد.

وفي الخارج، التقط شخص ما أسقطه هيرشار وابتسامة عريضة على وجهه.

Interesting.

قالها هيرشار بعدما لاحظ ما جعله يعتقد أنها نقطة البداية... نظر إليها مجدّداً... كانت ساعة حائط مقابله متوقفة عند الساعة السادسة والنصف لكن...» لا ينطبق العقربان الصغير والكبير عند السادسة والنصف، لا يوجد أسفل الساعة ما يدل على شيء... إذاً...» قال هيرشار وتابع لنفسه: «خدعة البيوت القديمة؟».

تقدم من الساعة وأحضر كرسياً بمواجهتها ثم عبث بالعقربين يحركهما... استمر في الأمر لدقيقة قبل أن يسمع طقّة، «والآن؟» فكر، وقبل أن يجد الإجابة، كان الباب المخفي قد انفتح دافعاً هيرشار إلى مكان معتم.

سقط هيرشار بسبب هذا وبدأ يتألم جراء ذلك، «بدأنا؟». تساءل، كان الباب الذي فتح قد دفعه إلى الداخل... إلى مكان معتم... نظر حوله... مرت لحظات قبل أن تعتاد عيناه الظلام... لكنه لم يرَ الكثير... أخرج هاتفه الخلوي، أشعل الضوء فيه... وقرر المضي قدماً، توقف.

«أووه!... ما كل هذه الدرجات؟!». قالها متفاجئاً. «إنها حوالي عشرين درجة، هذا يعني طابقاً كاملاً! إذاً، سأنزل إلى القبو؟!» أخذ يفكر...

وجه ضوء هاتفه إلى أسفل لينير طريقه، وبدأ بالنزول، درجة... درجة. «إلى أين يأخذني هذا الدرج؟». فكر، ثم فجأة ازداد حماساً، وعاد إليه حبه للمغامرة، استمر في النزول موجهاً الضوء إلى الأسفل، وحين اقترب من نهاية الدرجات... أبرز الضوء له شيئاً ممدّداً على الأرض، وجّه الضوء إليه أكثر... تبيّن له أنه جسد... اندفع راكضاً باتجاهه نزولاً، وحين أصبح بجانبه... أدرك صاحبه.

«آنسة سالي؟!».

حملها بين يديه... ربت على خدها قليلاً... حتى بدأت تفتح عينيها، قال لها:

«ما الذي تفعلينه هنا؟!» بنبرة شخص مصدوم.

«آ... آه، أين نحن؟!» وبدأت تلتفت حولها.

«لا أعلم!» قالها صادقاً.

«ما الذي حصل؟!». سألها بعد أن انتبه لوجود كدمة على رأسها.

«لست متأكدة».

«لِمَ أتيتِ إلى هنا؟ ألم تقولي إنك لا يمكنك دخول هذا القصر؟!».

«آ... آه، أتيت لأطمئن على كل شيء قبل قدومك، فتسوجي، تسوجي لم يكن يجيب على الهاتف بعد أن أخبرته بقدومك، قلقت فأتيت».

«إذاً السيارة التي في الخارج... سيارتك؟».

«آ... آه».

«وبعد ذلك؟ ماذا حصل؟».

«كنت، كنت أتحدث مع تسوجي، ثم، ضباب، لا نجوم، فقدت وعيي، لم أفق إلا الآن... أين أنا؟».

«ليتني أعلم أين نحن بالضبط!» قالها، ثم فكر... «هل يعقل؟! هو من ضربها؟ لماذا؟ ولماذا وضعها هنا؟!».

«ما... ماذا سنفعل؟». سألته وهي ترتجف.

«هل تشعرين بالبرد؟ الجو ممطر وعاصف وأنت ترتدين ملابس خفيفة». ثم خلع معطفه، ساعدها على الوقوف وألبسها إياه...

سلطانة القاهرة

يوم الثلاثاء في العاشر من أبريل 1257، كان الصباح الصافي والدافئ يبشّر بنهار رائع في بلاد النيل. وفي سماء شديدة الزرقة لم تجرؤ على تعكير صفوها غيمة واحدة، كانت الشمس تغمر مدينة القاهرة بالنور وشذرات الذهب الملتمعة بين أوراق الشجر وفوق مياه النهر الفيروزيّة. جلست السلطانة شجرة الدرّ في جناحها الفخم بقصر قلعة القاهرة، يعتصرها الحزن والمرارة، وهي تقول في سرّها إنّ نهاراً كهذا خلق للحب والسعادة، لا للموت واليأس اللذين يستبدّان بأفكارها.

كانت السلطانة مسترخية في سريرها السابح بضوء شمس ذلك الربيع، متّكئة إلى كومة من الوسائد الناعمة، والمكسوّة بأغطية حريريّة تزهو بتموّجات اللونين الأخضر والأزرق، والمطرّزة بخيوط ذهبيّة وفضّية، تتداخل لتنفح الحياة في عصافير خلاّبة وأزهاراً نضرة ونباتات عجيبة. كان مزاج السلطانة الجميلة بعيداً كل البعد عن السعادة والصفاء. لم يغمض لها جفن قبل الفجر، حين استسلمت، بعدما أنهكتها الأفكار السوداء التي لا تنفكّ تقضّ مضجعها بلا هوادة، لساعات معدودة من النوم.

كان اللونان الأخضر والأزرق هما المفضّلان لدى السلطانة، التي تصرّ على القول إنّهما يسمحان بصفاء الذهان والتفكير العميق والنوم الهانئ، ويستحضران أسعد الأحلام . أمّا الغرفة، الشبيهة بعلبة ثمينة للدرر، تسكنها هذه المخلوقة الرائعة والمسمّاة «شجرة الدرّ»، فقد انسدلت فوق جدرانها، الحرائر والسجّاد والغلالات يطغى عليها اللونان المذكوران، والمطعّمة بالذهب والفضّة، والمزدانة هنا وهناك بلمسات فاقعة من الأحمر أو الأصفر، تبثّ الدفء في تلك اللوحة البحريّة، التي صنعها أفضل فنّاني مصر.

في الماضي، وجدت الحوريّة الجميلة في ذلك الملجأ صفاء الذهن والتوازن اللذين تحتاج إليهما لتخوض معاركها. كما وضعت فيها أفضل خططها الحربيّة، وخاضت معاركها الأعنف شبقاً. تلقّنت منذ سنوات صباها فنون الحبّ والإغراء، الشرقيّة والمثيرة، لتخرج منها مظفّرة دائماً، بينما يخرج غريمها خاضعاً، لكن سعيداً.

غير أنّ سحر المكان لم يفعل فعله في تلك الليلة. فشجرة الدرّ كانت تتعذّب، وحين غلبها النوم، كان مسكوناً بالشياطين ومضطرباً بكوابيس مروّعة. بات القلق رفيق أيّامها وانغرست جذور الإحباط عميقاً في فكرها. أمّا التموّجات الزرقاء الفيروزيّة والخضراء الزمرّديّة، ألوان عينيها وحجارتها الكريمة جالبة الحظّ، فقد تلاشت قدرتها المهدّئة.

كانت السلطانة تحاول يائسة أن تتبيّن بوضوح ما يختلج في أعماق ذاتها، وفي الأحاسيس المشؤومة التي أيقظتها التصرّفات الأخيرة لزوجها الثاني حيالها، السلطان المعزّ أيبك. حتّى ولو كانت دائماً امرأة العقل، فإن قلبها لم يكن بعيداً قطّ حين يتعلّق الأمر برجال حياتها. وها الشغف اليوم يتغلّب على المنطق. وجودها مهدّد والسلطة تكاد تفلت من بين يديها نهائياً. وزوجها يخطّط لزواجه الثاني من أميرة شابّة.

تأرجح قلبها بين السخط والخوف، غير أنّ الانتقام الذي ينادي به كبرياؤها الجريح هو الذي سيطر على تفكيرها. كان الانتقام يحثّها على تصفية حسابها مع الجاحد الذي يدين لها بكلّ شيء، ومع ذلك قد زيّـن له غروره إهانتها. كان أيبك الرجل الوحيد الـذي أحبّته بشغف. صحيح أنّ ذلك الشغف لم يدم سوى سنوات قليلة، أي الوقت الكافي لتعرفه على نحو أفضل، لكنّ الشغف الجارف عينه هو ما سمح له بالوصول إلى حيث هو اليوم، على رأس أمبراطوريّة مصر وسوريا.

بعد موت زوجها الأوّل، السلطان الأيوبيّ الصالح، رغب كثير من الأمراء المماليك في الزواج من الأرملة الجميلة. أولئك الأمراء كانوا القوّة الحقيقيّة للأمبراطوريّة، وقد منحوا ثقتهم للمرأة الكفوءة والحكيمة، أرملة سيّدهم جميعاً، الراحل الصالح أيّوب. كانت قادرة على حكم البلاد، كما دأبت أن تفعل خلال حياة زوجها. كان الجميع يعرفون أنّ شجرة الـدرّ تمثّل أثمن ما لدى الصالح: هي زوجته، والمؤتمنة على أسراره، ومستشارته السياسيّة الأولى، والأغلى على قلبه، حتى من أولاده. وفي أثناء غيابه، كانت هي من تدير شؤون الدولة.

عند وفاة السلطان الصالح أيّوب، وفي خضمّ الحرب ضدّ جيش الملك الفرنسيّ لويس التاسع، عرفت شجرة الـدرّ كيف تدير الأزمة ببراعة وحذاقة وشجاعة تليق بأعظم السلاطين. لقد نجحت في المحافظة على وحدة البلاد وقهر جيش الصليبيّين، فتجرّأ أمراء المماليك التابعين للصالح أيّوب على اتّخاذ ذلك القرار الذي لا سابقة له في تاريخ العالم الإسلاميّ: انتخبوا على رأس الدولة امرأة، ومنحوها مقاليد السلطة الرسميّة كاملة. قبضت شجرة الدرّ بيديها الناعمتين والحازمتين على أعنّة الدولة مدّة ثمانين يوماً مجيدة. كان لقبها «ملكة المسلمين».

لكن أصـواتاً بدأت تعلو ضدّ استلام امرأة الحكم، وقد كان لأحدها، أكثر من غيره، القدرة على جعلها تذعن؛ صوت الخليفة في بغداد، الزعيم الروحيّ للعالم الإسلامي قاطبة. رغبةً منها في المحافظة على وحدة الإمبراطوريّة وسلامها، كان على شجرة الدرّ أن تبحث بسرعة عن زوج تجعل منه سلطاناً شريكاً. تنازلت عن العرش بدون أن تتخلّى عن السلطة.

إختارت أيبك. وأرادته لتقاسمه السرير والعرش. أيبك، ذاك العبد القديم، والعسكريّ الذي ارتقى المناصب العسكريّة ليصبح أتابك، قد جعلت منه شجرة الدرّ سلطاناً، فاتّخذ اسم المعزّ أيبك، ثمّ أحكم سيطرته على الدولة.

كان لشجرة الدرّ ما يكفي من الفطنة والدهاء لتفهم أن أيبك استطاب طعم السلطة، وأنّ العبد الذي بات ملكاً، يريد التحرّر ممّن أحسنت إليه، ومن التي يدين لها بصعوده الصاعق. لقد بات لديه مجموعته الخاصّة من المماليك والمستشارين، الذين راحوا يحاربون أنصار النظام السابق المخلصين، وخصوصاً السلطانة. في الواقع، ضاق هؤلاء الحلفاء الجدد ذرعاً بسطوة شجرة الدرّ على أيبك، وتدخّلها في شؤون البلاد، فلم يوفّروا جهداً لتحريره من نفوذها.

وهكذا نجحوا في حمله على تغيير مقرّه: بعدما التقى أيبك منجّماً تنبّأ له بأنّه سيموت على يدي زوجته، اختار الإقامة في مسكنه، في باب اللوق، تاركاً قصر قلعة الجبل، حيث تقيم شجرة الدرّ، حاكمة مطلقة بدون منازع. كان صلاح الدين، الجدّ الشهير للصالح أيّوب، ومؤسّس سلالة الأيوبيّين، قد شرع في بناء تلك القلعة العام 1176 فوق مرتفع متّصل بجبل المقطّم المشرف على مدينة القاهرة.

لم يعد أيبك يمرّ لرؤية زوجته في مسكنها إلاّ في ما ندر، كما توقّف عن استدعائها طلباً لمشورتها في شؤون الحكومة، وباتت القطيعة نهائيّة. شعرت السلطانة بأنّها وحيدة وضجرة متعبة، أمام الشدّة التي حلّت بها، لكن، وبعد سنوات كثيرة طبعتها المعارك وكللّها المجد، أدركت السيّدة العظيمة أنّها لم تعد تملك خياراً. عليها أن تتسلّح بالشجاعة وتتصرّف.

راحت معدتها تنقبض كلّما مـرّت ببالها فكرة خيانة أيبك وغدره. واستبدّ بها شعور مروّع بأنّ يد جنّ عملاقة تلوي أحشاءها بلا هوادة، لتصعد منها حموضة تشعل في حلقها حريقاً مرعباً، فيما يده الأخرى تضغط على صدرها، فتعتصر رئتيها، ويصبح تنفّسها لهاثاً. كان وضعها يزداد سوءاً حين تفكّر بأنّها، وبعد زواج أيبك بخطيبته الشابّة، وهي ابنة أتابك الموصل، بدر الدين لؤلؤ، ستتعرّض للقتل عاجلاً أم أجلاً، أو حتّى أسوأ، سترسل إلى غياهب نسيان الحريم.

back to top