غريبة الحسين

نشر في 23-06-2018
آخر تحديث 23-06-2018 | 00:00
No Image Caption
في ذلك اليوم، يوم الأحد السادس والعشرين من شهر يونيو من عام 1949، دخلت الآنسة كلود فيرني إلى حديقة اللوكسمبورك القريبة من الحي اللاتيني بباريس. دخلت إلى الحديقة في بذلة أنيقة بيضاء بقفازين وقبعة، تذكّر بأميرة إنجليزية. حضرت لموعد صديقها المغربي عمر الذي أنهى في ذلك الشهر دراسته في الحقوق.

حضرت كلود دقائق قبل الخامسة. ساعة الموعد، تعمدت ذلك السبق لأمرين أولهما أنها أرادت أن تعيش لحظة امرأة شرقية مع رجل شرقي، امرأة تنتظر، وثانيهما أن ذلك الانتظار هو أحد أنواع التصرّف الأنيق الذي تحرص كلود على ألا يفوتها إذ يمكنها دون ضرر من أن تعبّر لصديقها عن تقدير عميق، بل عن عاطفة كامنة ما فتئت تكبر بين جناحيها منذ أربع سنوات.

كان عمر في قسم البكالوريا بثانوية مولاي إدريس بفاس عندما سقط والده شهيدًا برصاص جنود الاستعمار وقد حرصت إحدى خلايا التنظيم الوطني على مساندة عمر حتى نجح ووجّهته لمتابعة دراسته بباريس. ذهب إلى هناك بأنفة ابن الشهيد، واختار الدراسات الحقوقية ليكون محاميًا أمام المحاكم الاستعمارية ببلده. وكانت وضعيته بينه وبين نفسه وفي أعين أصدقائه وزملائه مانعة له عن كل تسقّط في حياته الباريسية. وكانت ذكريات حرقة أمه على فراقه ووصاياها تجدّد فيه النخوة وإرادة الثأر كلما ضعفت لديه الإرادة وأوشكت نفسه أن تخور.

لم يفت كلود أن تلحظ بين المترددين على نادي طلبة شمالي أفريقيا المسلمين تميّز سلوك عمر ومعاناته تحت طبيعة واجمة كأنها مفروضة عليه. ولذلك تقرّبت منه، وبرهنت له مع الأيام في عفة أرستقراطية أصيلة أنها تقف في الضفة الأخرى بالنسبة إلى الذين لطخوا أيديهم بدماء والده.

كانت كلود أرستقراطية حقاً، من أم سويسرية بروتستانية ثرية سليلة أهل دار صناعة كبرى للساعات. لقيت الوالد جوزيف فيرني الفرنسي في معهد للموسيقى بمدينة لوزان. قربتهما النحلة البروتستانية وحبهما لريمسكي كورساكوف. وتولعا معًا بالبحث عن الأصول الشرقية في موسيقى الغرب كلها.

تزوجت فيرا فونباخ بجوزيف فيرني بعد التخرج في معهد الموسيقى وسكنا مدينة باريس. في الدائرة الرابعة عشرة. واشتغلا باحثين في موسيقى الشعوب ومستشارين لإحدى كبريات شركات التسجيل. وكانت ثروة الزوجة تكفي لعيش رغد مدى الحياة، لولا أن الزوجين كلفا بأن يكتشفا في دقائق عوالم الأوتار حياة مسبوقة بالتناغم الذي يعيشانه في روابطهما العاطفية كل يوم وكل ليلة.

كان ميلاد كلود أرقّ نغمة في حياة فيرا وجوزيف. أنستهما كل ما عداها من تعابير العبقرية، إذ جاءت متناسقة متكاملة. وكلما كبرت بهرت الوالدين بذكائها. وجاء وقت شخص فيه ثلاثتهم سعادة ليس من العادة أن تدوم. وكان الرجل والمرأة ينتظران ولا يتحدثان عن إحساسهما بذلك الامتلاك وما رافقه من الخوف، ولكنهما كانا ينتهيان إلى نشوة لا يبرد حرارتها إلا بكاء في الأحضان. وكأن المجهول على الأبواب.

وكلما كانت البنت في عطلة في درسها ذهبا بها في سفر، لأن السفر ينسي الأبوين مشاعر الخوف ويجعلهما في حالة فرار، إلى أن كان الصيف الذي بلغت فيه كلود عامها الثاني عشر، وهي تستطيع أن تستفيد من رحلة إلى العالم الجديد. فسافروا إلى أميركا. وبعد شهر من الكشوف في عالم إنجلترا الجديدة المتخم بمعالم الفن والثقافة، قرر الأبوان أن يختما الرحلة بالركوع في ما يعتبرانه أعظم معبد للتجلي الإلهي على العالم في سحر الطبيعة، وذلك باختراق الطريق في شمالي شرق إنجلترا الجديدة وقت خريف الهنود والوصول بعد أيام إلى شلالات نياكرا في أعظم مساقطها الكندية.

رأت البنت بعينيها كيف ثملت الأم بمنظر ألوان أوراق الشجر الساحرة على امتداد مئات الأميال في هذا المجال الفريد، فأمها لم تتوقف عن ذرف دموع الهيبة أمام ذلك الجمال، وفي كل مرة تحاول أن تطمئن البنت بأن الفرح إذا زاد عن حد الانشراح والسرور تسبّب في البكاء، وأن كثيرًا من الناس لم يخبروا تلك المشاعر، فكانت تحاول أن تطفئ حرارة انفصالها بضم البنت وإغراقها بقبلات العطف والحنان، وكان الوالد من جهته يقوم برعاية انفعالات الأم المرهفة الإحساس. وكلما تجدد المنظر توقفوا بسيارتهم التي اكتروها للتملي بتلك الطبيعة.

وبعد سفر دام عدة أيام، استعدوا في مبيتهم القريب من الجبل للقاء الشلالات، وظهر على الأم تجلد كبير وعلى الوالد تخوف، حتى إن ركبتيه لم تتحكما في القيادة في وقت من الأوقات. ولما توقفوا عن بعد وحبيبات الماء تحملها الرياح وتبلل بها الوجوه، اقتربوا من مساقط المياه ولم يعد أحد يسمع أحداً من شدة الهدير، وقالت الأم وكأنما تملكتها روح الشلال:

- ملأنا العين بألوان أوراق الشجر في الأيام الماضية، وليس من تحية لهذا الماء الذي تساقط في جلال مهيب وقطعت أحشاءه سيوف الرياح قبل أن يواصل مجراه سوى أن يلمس بالجسد، فلكل لغة جواب.

وهكذا تقدمت أمام زوجها وابنتها وتجردت إلا من لباس استحمامها وقفزت في الماء غاطسة من جهة بجانب إحدى القنوات الجانبية للشلال، ولكن لم يطف الجسم على الماء إلا وهو جثة هامدة لأن رأسها ارتطم بحجر، ففارقت الحياة.

أصيب جوزيف من شدة الصدمة بشلل نصفي لم يبرأ منه إلا بعد خمس سنوات. حدث ذلك في الشهور السابقة عن اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد استوطن جوزيف سويسرا بلد زوجته وتجلدت البنت لأن عقلها كان أكبر من سنها، ولأنها نشأت وهي تسمع من الأبوين قصص الآلهة وصراعات القوى المتناحرة. وقد شبّت بالفعل متفلسفة رقيقة المشاعر ذات شخصية قوية، ذات قضية تدور على كراهة للظلم. وقد وجدت نفسها على الرغم من تفوقها في الرياضيات تتجه لدراسة الحضارة الشرقية بالجامعة.

وتابعت في الوقت نفسه دروس اللغتين العربية والصينية بمدرسة اللغات الشرقية. صادفت نهاية الحرب شفاء جوزيف شفاءً كاملاً وإتمام كلود دراستها الثانوية، فقررا الرجوع إلى فرنسا لتدخل هي إلى الجامعة. ومنذ ولوج الجامعة وهي تغشى النوادي السياسية لمناضلي الطلبة من أبناء الشعوب المستعمرة. وهنالك التقت بصديقها المغربي عمر.

ها هما معًا في هذا الشهر يتخرجان في الجامعة، كل في تخصصه، وكلود لن تعرف نتيجة امتحاناتها إلا غد ذلك اليوم أو بالأحرى ستعرف هل ستحتفظ هذه السنة أيضًا بالرتبة الأولى في قائمة الناجحين أم لا. وقد حملت إلى هذا الموعد دعوة لعمر لكي يحضر في أحد مطاعم زقاق سانت أندري ديزار حفل العشاء الذي يقيمه والدها للأصدقاء بمناسبة تخرجها. وهي تعرف أن من المرات القليلة التي سترى فيها عمر قبل سفره إلى بلده هي هذا الموعد في حديقة اللوكسمبورك وحفلة نهاية نشاط نادي طلبة شمالي أفريقيا المسلمين بعد زوال الغد وفي حفلة عشاء تخرجها.

back to top